تُذكر وتُعاد وكأنها الأبدية

عروبة الإخباري –

المدن – بسمة الخطيب-

قد يكون هذا آخر ما أنشر وآخر ما أكتب. وقد لا يكون. فرص النجاة ليست ذات شأن. الكتابة أول من يخذلك في مواجهة الموت والحرب.ولكن شكراً على كل حال.
المدونة:
لعلّها من أكثر العبارات التي يكرّرها اللبنانيّون: “تنذكر وما تنعاد”. كل عام، في 13 نيسان، يتذكّرون حربهم الكبرى التي اندلعت العام 1975، وعلى امتداد العام يحيون أعياداً للشهداء والتحرير والمقاومة وغيرها من المناسبات التي تستذكر حروباً عديدة عاشوها. وها هي حرب أخرى تندلع، وحرب أخرى تُعاد، قبل أن تُنسى سابقاتها. هذه الحروب ذُكِرت أم لم تُذكر، تبقى تُعاد وتُعاد إلى ما لا نهاية.
تتكرّر تلك المشاهد المؤلمة والعبثية. دعوات الإخلاء، تهديدات ووعيد، عينات أولية من المجازر والترويع، نزوح كثيف من المناطق المستهدفة نحو بقيّة لبنان. تختنق الطرق بالمركبات وتخنقهم. يعطشون، يجوعون، يحتاج مرضاهم إلى أدويتهم. مشهد يُذكر ويعاد.
مركبات محمّلة بالفرش والأغطية، وأخرى لم يجلب أصحابها إلّا مفاتيح بيوتهم. ما زال المفتاح معنا، فهذا يكفي. حتّى لو هدم البيت، سيبنون غيره ويصنعون مفاتيح جديدة، والمفتاح القديم سيبقى معهم. ربما ليفتح الذاكرة التي خلعت أقفالها بالأساس. مشهد يُذكر ويُعاد.
مجازر وجثامين ونعوش. كثير من النعوش خفيفة، تحمل أطفالاً أخفّ من الأكفان. مشاهد تُذكر وتُعاد.
اكتظاظ المرافق الاستشفائية، نداءات استغاثة، خلايا إغاثة ارتجالية، تخبّط ومؤازرة وتعاضد وشماتة… شيء من كلّ شيء. مشاهد تُذكر وتُعاد.
تهافُت على المواد التموينية والمحروقات. هلع في الأسواق، هلع في البيوت، هلع في المنامات حتّى. مشاهد تُذكر وتُعاد.
هلع في المدارس، الأهالي يتدافعون لسحب أولادهم من الصفوف. صفّاراتُ إنذار هي نداءات الأهل لسحب أولادهم. توقّف الدراسة إلى أجل غير مسمّى، مدارس تؤوي النازحين، غسيل منشور بين قاعة المعلّمين والسلالم. مشاهد تُذكر وتُعاد.
تفاصيل مستجدّة
تضاف من حرب إلى أخرى، تفاصيل جديدة أو مستجدّة، أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي، التي غابت في حرب إسرائيل على لبنان العام 2006، وحضرت في حربه الآن، حيث كلّ ما يُعاد ويكرّر يمرّ عبر تلك الوسائل، والمنصّات الرقمية تدمغه بطابعها.
الآن نرى تلك المشاهد وقت حدوثها عبر هواتفنا الذكية، نشاركها في مجموعات الواتسآب، مجموعة العائلة، مجموعة الأصدقاء، مجموعة جارات الحيّ، ومجموعة أهالي الصفّ… تنتقل نداءات الاستغاثة في سرعة قصوى، ويرسل المغيثون الإشارة. حتى مناشير العدو باتت رقمية وأيضاً مصورة، تدخل في مونتاجها الحيل الالكترونية. كما تتغير بين عام وآخر، جغرافيا العدوان، وهي امتدّت وتوسّعت في هذه الحرب حتى الجغرافيا اللبنانية. دوائر الاستهداف واسعة وتتمدّد.
الطاقة الشمسية ومولّدات الأحياء الكبرى إضافة بارزة في هذه الحرب. فالكهرباء التي اختفت تماماً العام 2006 لن تفعل هذه المرّة بفضل أنظمة الطاقة الشمسية وألواحها التي تعلو الأسطح، والتي نراها في فيديوهات استهداف المباني. كذلك تنتشر، بما لا يقاس، اشتراكات المولّدات الكبرى، أكثر مّا كانت عليه قبل عقدين.
أبني جدراناً أو أسحق حبات الكاندي
في العام 2006، شلّني هول ما عشت. شموع أو قنديل غاز ومولد منزلي صغير يعمل بتقطير وتدبير بسبب شحّ الوقود. ما استطعت أن أفعل شيئاً سوى انتظار وقف إطلاق النار. يوماً بعد آخر ومجازر بعد أخرى، كان الوقت يمضي ببطء قاتل، وتدوم المجازر أطول ممّا يجب، وكأنها تمضي بتقنية العرض البطيء. ما استطعت أن أقوم بأي من مشاغل يومياتي. الشيء الوحيد الذي ساعدني هو ورق اللعب (الشدة). أخمّن ساعة انتهاء الحرب، وأترك الورق يخبرني. اليوم أنغمس في الألعاب الالكترونية المنزّلة في هاتفي، فأبني جدراناً أو أسحق حبات الكاندي أو أعبّئ القوارير بالمياه الملوّنة، لأنّ عقلي مشلول ولم يبق لأطرافي سوى حركة آلية تافهة.
الوقت بطيء، كنبتةٍ تُركت تموت عطشاً. تستنفذ ما خزّنته سويقاتها وأوراقها فوق الأرض، ثمّ ما خزّنته جذورها ودرناتها تحت الأرض. تلفظ أنفاسها وهي تحدّق في السماء، في انتظار سحابة، والسحابة لا تأتي.
تصلني أصوات القذائف والصواريخ والغارات. أعرف أنّ أرواحاً تزهق على وقعها. من صوته أعلى؟ الصاروخ أم الروح المنسلخة من الجسد؟
أصوات تُذكر وتُعاد. كأنّ صداها يتداعى، بل يتبع قانون نيوتن الذي يبقى يتوالد من نفسه، مرّة بعد مرّة.
هذه الذكريات التي تبقى تُعاد، سواء كانت تابعة لقانون نيوتن، أو لقدر غيبي، هزمتنا وهزمت علوم الفيزياء والعقائد. الاستسلام للحزن، هو السلام الوحيد الذي قد نحظى به، فكلّما أملنا في حياة سالمة معافاة وطبيعية، أُحبطنا وقُهرنا وهُزِمنا.

Related posts

التل يعلن انطلاق المرحلة الثانية من المشروع الوطني للدفاع عن اللغة العربية

مؤسسة شومان تعلن أسماء الفائزين بجائزة “أبدع”

(صور) امل الرندي: حملة “اقرأ وتذوق” حققت نجاحا جديدا في (الاردن) بعد القاهرة وتونس