بعد مرور عام على أحداث السابع من أكتوبر، لحقت تبعات كثيرة بالفلسطينيين وقضيتهم، ما بين السلبي والإيجابي، كشفت حقائق ووثقت وقائع قد تبلور المستقبل، فأين يقف الفلسطينيون وقضيتهم اليوم من تلك الأحداث؟ خلال العام الماضي، تكبدت الساحة الفلسطينية خسائر ميدانية بشرية ومادية فادحة جاء جلها في غزة، في المقابل حصدت القضية الفلسطينية مكاسب سياسية وقانونية دولية مهمة، لم تجن مثلها من قبل. وكشفت حكومة الاحتلال صراحة عن وجهها الحقيقي الذي يصعب تجاهله اليوم، الأمر الذي قد يستشرف مستقبلاً رمادياً غامضاً للقضية الفلسطينية، يفرض على الفلسطينيين تبني إستراتيجية حكيمة لمواجهة التحديات التي قد تكون الأصعب التي تمر بهم وبقضيتهم.
تكبد الفلسطينيون خلال العام الماضي سقوط أكثر من ٥٠ ألف فلسطيني ما بين شهيد ومفقود، وحوالي ١٠٠ ألف جريح، ومثلهم يعيش في المنفى خارج غزة. كما يعاني اليوم حوالي ٢ مليون فلسطيني داخل غزة، تحت وطأة التهديد بالموت من نيران العدو ومن حرب التجويع ونقص الدواء والتهجير المتكرر، في رحلة شاقة للبحث عن أمان منشود. لم يكن حال الضفة بمعزل عن غزة، فسقط خلال العام الماضي أكثر من ٦٠٠ شهيد وآلاف الجرحى، وتضاعفت عمليات إغارة قوات الاحتلال على المدن والقرى، وهدم المنازل وتدمير الشوارع والبنى التحتية، وحالات الاعتقال، واعتداءات المستوطنين المتكررة، والتي تعد الأعلى على الإطلاق مقارنة بفترات سابقة، وضم مساحات شاسعة من أراضي الفلسطينيين، وتوسع استيطاني كبير.
على الجانب المقابل، عاشت القضية الفلسطينية خلال العام الماضي أفضل حالاتها على الصعيد السياسي الدولي والقانوني. فعادت لصدارة أحداث العالم، فارضة نفسها ليس فقط في المحافل الدولية، وإنما أيضاً في شوارع أهم العواصم العالمية، التي امتلأت بمئات الآلاف من المحتجين والمتظاهرين، المطالبين بتحقيق العدالة لفلسطين والفلسطينيين، فجذبت القضية الفلسطينية مدافعين وداعمين جدداً، وتحقق انتشار أكبر للرواية الفلسطينية، التي تعكس حقيقة واقع الاحتلال. وشهدت المحاكم الدولية حراكاً مهماً لصالح الفلسطييين، سواء كان ذلك في المحكمة الجنائية الدولية، التي قدم مدعيها العام طلباً باصدار أوامر اعتقال لقادة دولة الاحتلال، أو محكمة العدل الدولية، التي تنظر في قيام الاحتلال بارتكاب لجريمة الابادة الجماعية في غزة. وصدر رأي استشاري تاريخي خلال تلك الفترة عن محكمة العدل الدولية يطالب دولة الاحتلال بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة والقدس، وتفكيك المستوطنات وإخلاء المستوطنين واعادة المهجرين الفلسطينيين لديارهم اتي هجروا منها في العام ١٩٦٧، وتعويض الفلسطينيين عن سنوات الاحتلال الطويلة.
وشهدت أروقة الأمم المتحدة خلال العام الماضي حراكاً دبلوماسياً نشطاً، خرج بنتائج ايجابية للقضية الفلسطينية، وعكس تزايد تفهم الدول لواقع القضية الفلسطينية وعدالتها. فتمت ترقية جديدة لمكانة فلسطين، بأغلبية الثلثين، بمنحها امتيازات إضافية من قبل الجمعية العامة. فقد اعتبرت الجمعية أن فلسطين تستحق العضوية الكاملة، ودعت مجلس الأمن لإعادة النظر بموقفه المعطل لذلك، بسبب الفيتو الأميركي. وفي تطور لاحق، صدر قرار آخر عن الجمعية العامة، ترتبت على الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، دعا الاحتلال للانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال عام واحد. كما اعترفت دول جديدة بدولة فلسطين، وباتت العددالاجمالي للدول المعترفة بفلسطين ١٤٩ دولة، من أصل ١٩٣ دولة.
وتنسجم تلك التطورات السياسية والدبلوماسية والقانونية مع تضحيات وتحدي وصمود الشعب الفلسطيني، الذي واصل تقديمها عبر عقود طوال، وتوجها بتلك التضحيات التي لا تزال تنزف اليوم. على العكس تكشف حكومة نتنياهو صراحة عن توجهاتها ونواياها، التي تعكسها سياساتها الفعلية على الأرض. من خلال استعراض بنيامين نتنياهو رئيس وزراء حكومة الاحتلال خلال العام الماضي نوعين من الخرائط، الأول تجاهل فيها وجود الضفة الغربية بما فيها القدس، وضمها لإسرائيل، بينما ظلل قطاع غزة بلون مختلف وكأنه يتبع للأردن، وفي الخرائط الأخيرة، التي عرضها قبل أيام في الجمعية العامة، يبدو أنه قد حسم أمر غزة، فباتت كوضع الضفة، أي ضمها تحت حكم دولة الاحتلال.
لم يخف نتنياهو وحكومته الائتلافية نواياهم بضم الضفة، حيث يصرح علانية رفضه قيام دولة فلسطينية. وكانت تفاهماته مع وزرائه في إطار حكومته الائتلافية بتحويل ادارة الضفة الغربية المدنية من صلاحيات الجيش إلى السلطات المدنية الوزارية، الأمر الذي يغير وضعها من وقوعها تحت السلطة العسكرية، كارض محتلة، إلى سلطة مدنية حكومية تتبع لإسرائيل، مثلها مثل باقي الأراضي خلف الخط الاخضر. وخلال الأشهر التي سبقت احداث السابع من أكتوبر، عمل نتنياهو ووزراؤه على تخصيص ميزانيات كبيرة لتوسيع الاستيطان، وشرعنة البؤر الاستيطانية، وتسليح المستوطنين. بعد أحداث أكتوبر، تضاعفت مرات اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة، وازداد تسليحهم، وتسارع الاستيطان، والاجتياحات، والاعتقالات، والقتل.
لم يكتف نتنياهو بذلك، بل بدأ بمحاربة السلطة الفلسطينية، وتقويض مكانتها، ومصادرة أموالها، لإضعافها، بحجة حراكها السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية، في ظل تنكر الاحتلال لأي استحقاقات قانونية أو تعاقدية مع الفلسطينيين لعقود. بعد أحداث ٧ أكتوبر، أعلن نتنياهو نيته القضاء على حركة حماس، من بين أهداف أخرى لحربه على غزة. يعكس ذلك التوجه لنتنياهو تبدل استراتيجيته في التعامل مع الفلسطينيين، والتي قامت في السنوات الماضية على أساس الحفاظ على بقاء إدارة السلطة للضفة وحكم حماس في غزة، مع بقاء حالة الانقسام الفلسطيني، الذي يضمن هشاشة وضعف الفلسطينيين على المستوى السياسي، ويمكنه من تحقيق أهدافه في الضفة الغربية بتوسيع رقعة الاستيطان وزيادة عدد المستوطنين، تدريجياً، لتغيير واقع الأراضي الفلسطينية عبر استراتيجة زاحفة. خلال العام الماضي، واصل نتنياهو تقوضه وأضعافه للسلطة، وسرع من مشروعه الاستيطاني، واحكام سيطرته على الضفة الغربية، بينما يعمل في غزة على إحكام سيطرته عليها، بالقضاء على حركة حماس، واحكام سيطرته على محور صلاح الدين “فيلادلفيا” الحدودي مع مصر، وتدمير القطاع، وخفض عدد سكانه، بالقتل ومشاريع التهجير.
في ظل تلك التطورات، يبدو أن الاحتلال لا ينوي التخلي عن غزة. فقد انتقل إلى المرحلة الثالثة من هجومه عليها، بعد أن حقق تدمير كبير للقطاع ومعاناة هائلة لأهله واضعاف مقاومته، ويكتفي في هذه المرحلة بعد أن أحكم سيطرته على حدود القطاع، وأخضعه لحاله من التحكم والحصار، بعمليات محدودة برية، والاعتماد على السلاح الجوي في تنفيذ الأهداف. إن ذلك التطور الميداني يعني خضوع القطاع لحالة إستنزاف طويلة المدى، ستكبده مزيداً من الخسائر على كافة المستويات. إن هذا التطور الميداني في غزة قد سمح للاحتلال ببدء حربه مع لبنان، في خطة يبدو أنها قد وضعت مسبقاً، وكانت تنتظر الوقت المناسب. وفي الضفة لا تبدو الأمور أفضل حالاً، وهي المناطق التي كانت مرشحة للانتقال من حالة الضم الزاحف إلى الضم المعلن المتسارع منذ الساعات الأولى من عمر هذه الحكومة، اذ من المتوقع أن تشهد مزيد من التصعيد، خصوصاً وأنها على رأس أولوياته.
ليس من الضرورة أن ينجح نتنياهو بتحقيق مخططاته تجاه الفلسطينيين، طالما تواصل بقاء أعدائه في المنطقة، وتحشيد قوتهم، لموازنة معادلة الردع في المنطقة، اذ ليس في صالح الفلسطينيين تخلخل معادلة الردع لصالح دولة الاحتلال. كما يصعب اليوم حسم نتائج الحروب كما كان في الماضي، في ظل توفر تكتيكات وأدوات جديدة في المعارك تختلف عن تلك التي سادت في الحروب التقليدية، وهو ما يمكن ملاحظته حالياً خلال حروب إسرائيل الحالية على جبهات متعددة، حتى وإن كانت أضعف منها، فهي قادرة على تكبيدها الكثير من الخسائر. قد تكون هذه الأيام الأصعب في عمر القضية الفلسطينية، وهي تحتاج من الفلسطينيين إعادة النظر في خلافتهم الداخلية وعلاقاتهم الاقليمية والدولية، وترتيب أولوياتهم.