في ذكرى رحيل البروفيسور ادوارد سعيد. قال لي .. وقالوا !* جودت مناع

عروبة الإخباري –

ضيقة هي الدنيا، لكن الذاكرة لا مستقر لها في نهاية الأفق. تلملم  الألم ولا تكتفي بما تحتفظ به من مآسي، بها ومعها عشنا العمر بسراج بدائي صنعه الحرفيون الأوائل من الصاج والفتيل المستورد.

حول هذا الضوء بسطوعه الخافت، كانت الأسرة تلتقي وتتعلم وتأكل وتعيش الماضي بصور تلونها كلمات الأجداد تحت فضاء ليس ككل الفضاءات رغم أن له شمس وقمر لكن بلا بيت أو حقل لمن نجا من النكبة.

وامتد الزمن ليعيش معنا عقودا…

تلك البقعة من الوطن سميت بالمخيم، تكوينه لم يكن صدفة، لأن الخيام التي انتصبت بأوتاد وواسطة خشبية أحضرها الأعداء معهم لهدم وطن مواطنوه من نسغ هذه الأرض وبناء آخر غريبا عن تلاله وسهوله. كان بحره لهم شرفة على العالم.

وإن تبدلت الخيام بغرف اسمنتية تشبه ضريحا بلا شاهد أشهر لبطل أو لأحد الأولياء ممن لم نحضر أوقاتهم أو استبدلت بغرف الصفيح لتظهر وجه الصدقة القبيح.

هناك في المخيم كما في أروقة الجامعات خلف البحار ولدت السياسة وجاء معها العقاب. وتبدلت فكرة تكوين المجتمع الوطني بأخرى مستوردة لتبني طبقية قاعها حرمان قاس لا زلنا نعاني منه حتى اليوم.

وكان للعلم فرصة كما الشجاعة فجر وفخر، لكن الثقافة ليست جديرة في تسخير هذه الفرص لكسر التكوين القسري الحديث المتفشي على أرضنا لانتزاع وجودنا.

وللتاريخ فإن التعددية الفكرية لم تنقذ شيئا من الضياع. علقت بدوامة الذات ومصالح الفكر الجاهز وانطوائته المهينة لقضية عادلة حتى اليوم.

ذلك له اسبابه، استبعاد القدرات والكفاءات وصارت السلوك السياسي كملك الغابة الذي يستأثر بفريسته ويحظر على غيره الاقتراب من مسلخه.

اللوم لا يمكن توجيهه للمستأثرين بالقرار دون غيرهم. خلال أسفاري وممارسة مهنة الصحافة التقيت برؤساء دول، وزراء وزعماء أحزاب سياسية، أكاديميون ونجوم من مختلف الحقول .. وغيرهم.

من بين تلك اللقاءات التي استأثرت بمشاعري لقائي بالأكاديمي الصديق البروفيسور الراحل هشام شرابي على مأدبة غداء تشرفت به في جامعة جورج تاون بواشنطن دي سي، ألمح بمعارضته الاستراتيجية الفلسطينية وانتقد الطريقة التي يدار بها الصراع. وقال: استبعدوا كل المفكرين الذين بإمكانهم فعل شيء لإنقاذ الوطن”.

وكان أكثر ما آلمني هي قصة رواها البروفسور ادوارد سعيد عندما جاء إلى فلسطين قادما من الولايات المتحدة لزيارة البيت، ملك والديه، الذي ولد تحت سقفه في القدس ولعب في حديقته الأمامية بحرية قبل النكبة الفلسطينية.

خلال لقاء صحفي معه روى لي البروفيسور سعيد ما حدث له أثناء محاولته زيارة بيت والديه الكائن على مقربة من حيث كنا جالسين في حديقة فندق “الأميركان كولوني” في القدس المحتلة. و بعد نهاد شاق كما لحظة انفصال الروح عن الجسد.

لدى وصوله بوابة المنزل استأذن البروفيسور الإنسان من استوطن في بيت والديه الدخول لاستعادة طفولته المسلوبة مع البيت والوطن فلم يأذن المستوطن له بذلك.. دمعت عيناه ذاكرة وألم وسكت عن الكلام.

هي قصة كل فلسطيني مات أو لا يزال  ومعه حسرة تسكن على هذه الأرض.

وفي لندن التقيت بالرئيس الزامبي الراحل كينيث كاوندا الذي عبر عن دعمه وتضامنه المطلق مع فلسطين وشعبها وامتنانه لرئيسها للدعم الذي قدمه لشعب زامبيا.

من بعض من التقيتهم أيضا ستين اندرسون وزير خارجية السويد الراحل أثناء زيارته لمخيم الدهيشة بداية الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧.

وبعد أن استمع لشرح حول الاضطهاد الإسرائيلي للسكان، قال: ” من حقكم النضال ومقاومة جيش الاحتلال دفاعا عن أرضكم وانفسكم”.

وفي مقابلة صحفية اجريتها مع لاعب كرة القدم الفرنسي من أصل جزائري زين الدين زيداني صرح بأنه يتمنى لقاء فريقه بفريق كرة القدم الفلسطيني.

الرحلة إلى الوطن من داخله أو خارجه متشابهة. تشبه الصورة بتفاصيلها منذ قرن. نكبة لم تنتهي طالما ظل ضحاياها يبحثون عن الأشياء بين الدمار الذي حل في بيوتهم بعد أوسع عملية طرد جماعي تخللها جرائم لا زالت مستمرة دون عقاب.

التسامح الذي انتهجه أبطال قادوا نضال بلادهم قد لا يصلح في كل مكان وزمان. الفلسطينيون ليسو ضحايا احفاد ضحايا  النازية فحسب، وإنما ضحايا الغدر، وتسامحهم وثقافتهم.

 

Related posts

في ذكرى رحيل العظماء: إدوارد سعيد

في ذكرى رحيل ناهض حتر

جيشنا وأمننا فخرٌ وتاج على الرأس* د. نسرين الصبيحي