»طربوش جدي«.. رحلة في التراث بين الماضي والحاضر

يأخذنا الأدب في كثير من الأحيان إلى عوالم مليئة بالرموز والدلالات التي تربطنا بجذورنا، وتعمق فهمنا للحاضر من خلال استدعاء الماضي. واحدة من القصص التي تتألق في هذا السياق هي قصة «طربوش جدي» للكاتبة الأردنية تغريد عارف النجار، رسوم الفنانة اللبنانية مايا فداوي نشر دار السلوى 2024 والتي تقدم لنا رؤية أدبية غنية تأخذ بيد الصغار والكبار في رحلة تراثية ملهمة.
الطربوش: رمز الهوية والتراث
في قلب القصة يقف الطربوش، هذا الغطاء الأحمر الذي كان يومًا ما جزءًا لا يتجزأ من حياة العرب في بلاد الشام ومصر، يمثل رمزًا حضاريًا عريقًا. كان الطربوش علامة على التحضر والتمدن، ارتداه الملوك والزعماء، وأصبح جزءًا من الهوية الثقافية في تلك الحقبة الزمنية. لكن مع مرور الزمن، اختفى الطربوش من الشوارع، ليبقى فقط في ذاكرتنا الجماعية كرمز من رموز الماضي.
قصة «طربوش جدي» تُعيد إحياء هذا الرمز بأسلوب يتسم بالذكاء والسلاسة. تروي القصة حكاية الطفل سند، الذي يجد طربوش جده الراحل، المحامي الشجاع الذي كان يدافع عن حقوق الضعفاء. يدرك سند القيمة الرمزية للطربوش، فيقرر أن يرتدي طربوش جده ويحكي لزملائه عنه. وهنا تبدأ مغامرة شيقة للطربوش، حيث يمر بمواقف وأحداث مثيرة تعكس التنوع الثقافي والاجتماعي في المجتمع..
البناء السردي ورحلة الطربوش
اعتمدت الكاتبة تغريد عارف النجار في سردها على أسلوب السرد الخطي البسيط، الذي يأخذ القارئ من البداية إلى النهاية دون تعقيد، مما يجعله مناسبًا للأطفال والكبار على حد سواء. في هذا السرد، تبدأ القصة بسند وهو يحمل الطربوش إلى المدرسة، لكنه يواجه زملاء متنمرين في الطريق يخطفون الطربوش منه ويرمونه عاليا، فيعلق الطربوش في شجرة، ثم تراه عصفورة فتبني عشها فيه، ثم تأخذه الرياح ليقع قرب عربة العم يونس، الذي يستخدمه كوعاء لحفظ الفريرات. وهكذا يتنقل الطربوش من مكان لآخر، ومن يد لشخصية إلى أخرى، في سلسلة من الأحداث المشوقة التي تشد انتباه القارئ..
أحد أبرز ملامح هذه القصة هو استخدام الكاتبة للنهاية الدائرية، وهي تقنية أدبية تنتهي فيها القصة بموقف يشبه بداية القصة. في «طربوش جدي»، يعود الطربوش في النهاية إلى سند، الذي ينجح في تقديمه لزملائه في الصف كما كان يخطط منذ البداية. هذه النهاية تعكس الرحلة الداخلية التي عاشها سند، وتؤكد على فكرة أن الماضي والحاضر مترابطان، وأن التراث هو جزء لا يتجزأ من هويتنا.
رسائل غير مباشرة ودروس من الماضي
ما يميز «طربوش جدي» ليس فقط سردها الممتع والمشوق، بل الرسائل غير المباشرة التي تقدمها الكاتبة من خلال رمزية الطربوش. فالطربوش هنا لا يمثل مجرد قطعة من القماش، بل هو رمز للهوية الثقافية والتاريخية. من خلال هذا الرمز، تعبر النجار عن أهمية الحفاظ على التراث والاعتزاز به، وتبرز كيف يمكن للأشياء البسيطة أن تحمل معانٍ عميقة تُربط الأجيال ببعضها البعض.
توظف النجار في قصتها تقنية ضمير الغائب، مما يعزز من التركيز على رحلة الطربوش نفسه وليس على الشخصيات. هذا الأسلوب يجعل القارئ يركز على الطربوش ورحلته عبر الزمن والمواقف المختلفة، ويبرز كيف أن الرموز الثقافية قد تضيع أو تتغير، لكنها تظل جزءًا من نسيج الهوية الجماعية.
الطربوش: من رمز حضاري إلى أداة تربوية
لا يمكن إغفال أهمية الطربوش كمادة تربوية في القصة. من خلال مغامرة الطربوش، تتعلم الشخصيات -والقارئ معها- دروسًا حول القيم الإنسانية مثل الوفاء، والصداقة، وأهمية الحفاظ على التراث. الطربوش، الذي كان يومًا ما رمزًا للسلطة والتحضر، يتحول في يد النجار إلى أداة تربوية تُعلم الأطفال أن الماضي لا يجب أن يُنسى، وأن التراث هو جسر يربطنا بجذورنا.
التراث في أدب الأطفال: رؤية تغريد النجار
تغريد عارف النجار ليست غريبة على توظيف التراث في أدب الأطفال. فهي دائماً ما تسعى إلى دمج الرموز التراثية في قصصها لتقديم رسائل قوية وهادفة. في قصة «ما المانع؟»، على سبيل المثال، تستعيد النجار دور المسحراتي من خلال ابنة تحمل طبلة أبيها وتكمل مسيرته في إيقاظ الناس للسحور. وفي «الغول»، تقدم النجار حكاية خيالية من التراث الشعبي، حيث تعيد تصور شخصية الغول كمخلوق أليف قادر على التفاعل الإنساني.
هذه القصص وغيرها تعكس رؤية النجار التي تسعى من خلالها إلى بناء جسر بين الماضي والحاضر، بين التراث والحداثة، وبين الأجيال. وهي رؤية تعتمد على تقديم التراث بشكل ينسجم مع القيم المعاصرة، دون إغفال الجذور الثقافية التي تشكل هوية المجتمع.
ختاماً:
“طربوش جدي» ليست مجرد قصة للأطفال، بل هي عمل أدبي يعيد صياغة العلاقة بين الأجيال والتراث. من خلال مغامرة الطربوش، تقدم تغريد عارف النجار رسالة ملهمة حول أهمية التمسك بالهوية الثقافية والحفاظ على الرموز التراثية. إنها دعوة للتأمل في الماضي، واستخلاص الدروس منه لبناء مستقبل أكثر تماسكاً وارتباطاً بجذورنا. الطربوش، في هذه القصة، يصبح رمزاً للأمل بأن ما قد نفقده من تراث يمكن أن يعود إلينا يوماً ما، حاملاً معه عبق الماضي وقوة الحاضر.

Related posts

مبادرة “فرسان الإعلام العربي” لتكريم الإعلاميين في الوطن العربي

كتب الإعلامي سماح مطر قصة رَجُل من رجال الإستقلال اللذين أسسوا دولة لبنان

قطر ضيف شرف «معرض الرياض الدولي للكتاب 2024»