عروبة الإخباري –
عايشنا معاً وعشنا بأسى أكثر من أحد عشرة شهرًا من حرب الإبادة الشعواء على قطاع غزة. والتي شهدت مستويات من القتل الجماعي، والدمار الممنهج، والتهجير القسري، والتجويع ضد أبناء شعبنا، لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلاً.
في غزة، تخيّم ظلال الخوف واليأس، تحت زخات القذائف التي تتواصل دون هوادة، تجتمع العائلات المذعورة في الملاجئ المؤقتة، بعد أن تحولت بيوتهم إلى ركام. والمدارس والمستشفيات، التي كانت ملاذات آمنة، أصبحت أهداف.. تمزق صرخات رعب الأطفال صمت الليل، بينما يكافح ذويهم لحمايتهم. وتُخيم رائحة الموت في الأجواء، في إجراءات الدفن السريعة تحت القصف، ضمن محاولة الأقارب منح أحبتهم آخر لمحةٍ من الكرامة والوداع الأخير. يتفاقم الجوع والحرمان، مع ندرة وشُحّ المواد الغذائية والمياه النظيفة والإمدادات الطبية. وتثقل جرائم الحرب والمجازر كاهل شعبٍ عانى كثيراً، وكثيراً جداً. ولكن، في خضمّ هذه المحنة، يتجلى صمودٌ أسطوريّ، وبأسٌ شديد ضدّ الاستسلام لليأس. لا بدّ لهذه المعاناة ومسبباتها، التي نتجت ليس فقط من الحرب، بل أيضاً من احتلال طال أمده، لا بدّ أن تنتهي كشرط أساسي لإرساء دعائم السلام والاستقرار.
لم تدخر حكومتنا منذ تشكيلها في نيسان من العام الجاري، جهدًا في سبيل تحقيق استقرار الأوضاع المتدهورة في الضفة الغربية، بالتزامن مع التحضير “لليوم التالي” في قطاع غزة. نحن ملتزمون برعاية وأمن أبناء شعبنا، وحقه في العيش بكرامة، وبقيادة جهود التعافي وإعادة الإعمار، فور التوصل لوقف دائم لإطلاق النار، جنبا إلى جنب مع الاستمرار في تنفيذ الإصلاحات الضرورية لترسيخ أسس إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
حال التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، ستعمل حكومة فلسطين على تولي مسؤوليتها الكاملة تجاه قطاع غزة، وتقود جهود إعادة توحيد قطاع غزة والضفة الغربية بشكل كامل. إن إعادة توحيد شطري الوطن ليست ضروريةً فقط لتنفيذ جهود الإغاثة والإنعاش وإعادة الإعمار بفعالية وشفافية فحسب، بل تمثل خطوةً نحو الهدف الأسمى المتمثل في الوصول إلى اتفاق سياسي دائم من خلال إحقاق حقوقنا الوطنية، بالتوافق مع القانون الدولي ضمن حل الدولتين.
تشكل رؤيتنا “فلسطين واحدة”، والمتجذرة في وحدة الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية الجامعة، حجر الزاوية في هذه الجهود التي ستكون بوصلة الجهود الشاملة لإعادة إعمار غزة، وإعادة توحيدها مع الضفة الغربية، بما يشمل معالجةً الأزمة الإنسانية غير المسبوقة، وبموازاة مواصلة نضالنا الثابت لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإحقاق حقوقنا الوطنية في تقرير المصير والاستقلال، كوسيلة وحيدة لتحقيق السلام والأمن الدائمين.
لكننا لا نستطيع تحقيق ذلك بمفردنا. حيث يتطلب حجم الدمار غير المسبوق والاحتياجات الهائلة في قطاع غزة استجابةً دوليةً منسقةً وقويةً. وتستدعي إدارة القطاع، واستعادة الخدمات الأساسية، وإعادة بناء البنية التحتية، وإعادة توحيد المؤسسات، وتحقيق الاستقرار ومقومات الحياة الكريمة لأبناء شعبنا، التزامًا ودعمًا دوليًا كبيرًا. ودون ذلك وفي غياب التضامن والتحرك الدولي الشامل، سيبقى الطريق نحو الإنعاش، وإعادة الإعمار، والحلم بالسلام، وَعِرًا، ومُستحيلًا.
وعلى الصعيد الداخلي، لا يختلف اثنان على أهمية ومركزية دعم العناصر الرئيسية للنظام السياسي الفلسطيني من خلال وحدة فلسطينية ترسي أسس وقواعد الديمقراطية الشفافة والانتقال السلمي للسلطة والتعددية، لتسهيل عمل حكومةٍ فلسطينيةٍ غيرِ حزبيةٍ وتمكينها من إدارة شؤون شعبنا في كافة أنحاء غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. إن تمكين السلطة الفلسطينية من العمل ضمن نظام حوكمة موحد هو السبيل المناسب والوحيد للمضي قدمًا. حيث يشكل هذا الإطار الناظم شرطاً وضرورةً، ليس فقط لإعادة إعمار غزة، بل لضمان وضع فلسطين، بل والمنطقة، على الطريق الأمثل للسلامٍ والأمنٍ والاستقرارٍ الدائم، والازدهار المستدام.
ان خطة الحكومة لـ “اليوم التالي” لإدارة غزة، التي عملت على وضع تفاصيلها حكومتي خلال الأشهر الماضية، هي جزءاً من جهد أوسع لتعزيز عمل الحكومة وتمكينها، ولإعادة بناء الثقة مع أبناء شعبنا، وتعزيز أسس الديمقراطية والرفاهية على الصعيدين المحلي والوطني.
وانطلاقًا من رؤية “فلسطين واحدة”، ترتكز هذه الخطة على الركائز الأساسية التالية:
- الإغاثة العاجلة والإنعاش المبكر
سيتم تنفيذ جهود الإغاثة العاجلة والإنعاش المبكر بقيادة وتنسيقٍ استراتيجيّ من الحكومة الفلسطينية، بدعمٍ من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة والدول المانحة والشركاء الدوليين العاملين في قطاع غزة، إضافةً إلى القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني. وتشمل الأولويات إزالة الأنقاض، وتوفير مأوى مؤقت كريم، واستعادة الخدمات الأساسية مثل المياه والصرف الصحي، والطاقة، والصحة، والتعليم. وفي ذات الأهمية، دعم سُبل العيش والإنعاش والتمكين الاقتصادي التي تعتبر من الأمور ذات الأهمية البالغة. على أن يتم تُنسيق كامل هذه الجهود بشكل وثيق مع الوزارات والهيئات الفلسطينية المعنية، وهيئات الحكم المحلي. ولضمان فعالية وكفاءة سير العمل، سيتم تشكيل لجنة محلية للإنعاش المبكر في غزة لتنسيق جميع هذه الجهود والتأكد من مواءمتها مع خطة الحكومة الأوسع للإغاثة والإنعاش وإعادة الإعمار.
- إعادة الإعمار والإنعاش الطويل الأجل
سيتم إنشاء “هيئة إعادة إعمار غزة” لقيادة وتنسيق وإدارة جميع جهود إعادة الإعمار والإنعاش طويل الأجل، على أن تتمتع الهيئة بشخصية مالية وإدارية مستقلّة، بما يشمل إخضاع أعمالها للتدقيق وفقًا لأعلى المعايير الدولية. وأن يشرف عليها مجلس إدارة يتألف من كفاءات فلسطينية مشهود لها بالإنجاز والسمعة الحسنة، بما في ذلك من الشتات. وأن يتم إنشاء “صندوق ائتماني لإعادة إعمار غزة” في البنك الدولي لحشد الموارد المالية، مع إشراف وتوجيه من قبل مجلس استشاري دولي، وذلك لضمان أقصى درجات الشفافية والمساءلة.
- الأمن وسيادة القانون ومراقبة الحدود
يتطلب استعادة الأمن وحكم القانون في قطاع غزة إعادة هيكلة الشرطة المدنية الفلسطينية، وإعادة دمج ومراجعة أوضاع العاملين بناءً على الكفاءة والحاجة، والتي ستشمل الأفراد والعناصر في فترة ما قبل وما بعد العام ٢٠٠٧، بعد إجراءات الفحص والتدقيق المناسبة وتقييم القدرات. ستقوم قيادة الشرطة المعينة من قبل الحكومة الفلسطينية، بالتنسيق مع رؤساء المجالس البلدية لضمان حكمٍ محليٍّ خدمي فعّالٍ وقادر على الاستجابة لمتطلبات المواطنين. وفي ذات الوقت فإنه من المتوقع من الشركاء الدوليين تأدية دورٍ حيوي في تقديم الدعم لغرض بناء القدرات وتوفير المعدات اللازمة. وبالإضافة إلى ذلك، قد تطلب الحكومة الفلسطينية المساعدة الأمنية الدولية حسب الحاجة. كما ستتولى السلطة الفلسطينية إدارة المعابر الحدودية في غزة، بدعمٍ دوليٍّ مؤقت من الجهات ذات الصلة، مثل بعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة الحدودية (EUBAM) التي تم الاتفاق على انشاءها في عام ٢٠٠٥.
- إعادة دمج وتوحيد المؤسسات والخدمة المدنية
تولي خطتنا الحكومية الأهمية والحاجة المُلحة لإعادة دمج وتوحيد الهيكل المؤسسي وجهاز الخدمة المدنية في كافة أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن إطارٍ واحدٍ موحّد. وللوصول إلى هذا الهدف، سيتم تعيين قياداتٍ عليا مؤقتة للمؤسسات الحكومية في غزة، تتولى مهامها بشكلٍ مؤقت إلى حين اختيار مدراء دائمين من خلال عملية شفافة تعتمد على الجدارة والكفاءة. علماً بأن اختيار الموظفين سيكون بناءً على الاحتياجات الفنية، مع الالتزام بمعايير الجدارة والشفافية في جميع قرارات التوظيف.
- استعادة أعمال مؤسسات الحكم المحلي
كخطوةٍ فوريةٍ لاستعادة وإعادة دمج هيئات الحكم المحلي في غزة وضمان عودة نشاطاتها الملحة بأقصى سرعية ممكنة فإنني سأشرف شخصياً على تعيين شخصيات محلية مستقلة تتمتع بالكفاءة، وتحظى بالاحترام ضمن المجالس البلدية والمجتمعات المحلية، وذلك لتتولى مسؤولياتها ذات الصلة بشكلٍ مؤقت لمدة عام واحد، وسيتم منح هذه المجالس الميزانياتٍ اللازمة لغرض دعم المشاريع التي تلبي الاحتياجات العاجلة وتُقدّم الخدمات لأهلنا في غزة، وذلك وفقًا للتوجيهات والخطط ذات الصلة التي وضعتها حكومتي. في نهاية هذه الفترة الانتقالية التي لن تتجاوز عامًا واحدًا سيتم العمل على اجراء انتخابات الحكم المحلي في كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة لضمان المشاركة الديمقراطية والتّمثيل في الحكم المحلي.
إنّ حجم الدمار غير المسبوق في غزة لا يتطلب فقط دعمًا عالميًا جادًا، بل يتطلب أيضًا التزامًا جماعيًا بإعادة الإعمار والإنعاش. إننا ندعو إخواننا العرب وجميع الدول الشريكة للوقوف إلى جانبنا في هذا الجهد الكبير. فمعًا، يمكننا تلبية الاحتياجات العاجلة لشعبنا، واستعادة الخدمات الأساسية، وإعادة بناء الاقتصاد، وإعادة إشعال شمعة الأمل. إنّ هذا الطريق، على الرغم من صعوبته، هو السبيل الوحيد للمضي قدمًا – وهو الطريق الذي يمهد للسلام والأمن والازدهار الدائمين. إنّ الأمر لا يتعلق فقط بمستقبلنا كشعب فلسطيني وسعينا الدؤوب نحو تقرير المصير والحق في العيش بحرية وكرامة، بل يتعلق أيضًا بضمان الاستقرار ومستقبل أفضل لجميع شعوب المنطقة.
مرفق رابط المقال الاصلي باللغة الانجليزية
https://www.washingtonpost.com/opinions/2024/09/12/gaza-plan-palestinian-authority-mustafa/