جاء الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية يوم الجمعة الماضي حول واقع الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة ليطيح بما تبقى لإسرائيل من مكانة سياسية ودبلوماسية دولية، في ظل حرب الإبادة التي تشنها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ولتسلح المحتجين والمتظاهرين ضدها في كافة أنحاء العالم والمطالبين بالحرية لفلسطين بمعطيات قانونية دامغة تزيدهم إيماناً بعدالة القضية الفلسطينية وتشبثاً برفع الظلم عن الفلسطينيين. ورغم أن ما جاءت به محكمة العدل الدولية فيما يخص فلسطين والفلسطينيين ليس جديداً، حيث عجت تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية واللجان الدولية بتلك الحقائق، ناهيك عن الصوت الفلسطيني الذي لم يخفت يوماً في المطالبة بتلك الحقوق، رغم كل التحديات والتضليل والإنكار، إلا أن رأي المحكمة يحمل بعداً قانونياً حاسماً لا ريب فيه، من أعلى جهة قضائية دولية ذات الاختصاص، لتسكت أية حجج أو مبررات أخرى في ذات الخصوص. ورغم أن رأي محكمة العدل الدولية حول القضية الفلسطينية رأي استشاري غير ملزم التطبيق، إلا أنه يبقى بوصلة قانونية ذات مغزى للاسترشاد بها في القضية المرفوعة ضد إسرائيل في ذات المحكمة حول اتهامات بالإبادة الجماعية في غزة، وفي المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها بحدوث جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ورغم أن رأي محكمة العدل حوّل فلسطين غير ملزم، إلا أن ذلك الرأي قانوني خالص وجّه أصابع اتهام مباشرة للاحتلال، ودعا الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ودول العالم لتحمل مسؤولياتها في تحقيق العدالة للفلسطينيين، ووقف الظلم التاريخيّ الواقع عليهم. وفي جميع الحالات سترفع المحكمة رأيها للجمعية العامة، الجهة التي أرسلت الطلب للمحكمة للنظر في القضية، ويمكن للجمعية العامة أن تتبنى ما جاء بذلك الرأي الاستشاري، والذي يطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والا تتعرض لعقوبات دولية. يمكن للجمعية العامة أن تساهم اليوم بتحقيق العدالة للفلسطينيين، ممثلة بمعظم دول العالم الحر، من خلال قرار يحمل توصيات رأي المحكمة، وذلك لسببين؛ عجز مجلس الأمن القيام بهذا الدور، في ظل تاريخه وتجربته الفاشلة في تأدية دوره بكبح جماح إسرائيل، المهددة لأمن منطقة بأكملها على مدار عقود، بسبب تعطيل قراراته بفعل «فيتو» الولايات المتحدة، داعمة إسرائيل وشريكتها في خلخلة الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، ولطبيعة العقوبات الدولية في مثل تلك المنظمات، التي تأتي بإرادة وطنية خالصة، فالدول هي من يحدد العقوبات وهي القادرة على تنفيذها. إنه وفي ظل حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، والتي أشعلت شوارع دول العالم تعاطفاً مع الفلسطينيين وقضيتهم، وفي ظل تمادي الاحتلال في سياساته غير القانونية في الضفة الغربية، وبعد صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل، التي أكد الاتحاد الأوروبي أنه يعكس موقفه أيضاً، يصبح واجباً على دول العالم، أن تلتحم الإرادة الشعبية فيها بالقرار السياسي الرسمي، وذلك بفرض عقوبات على دولة الاحتلال، هذا هو واجب المجتمع الدولي اليوم.
جاء رأي المحكمة الاستشاري، الذي وضع بإجماع ساحق لقضاة المحكمة الـ١٥، في ٨٠ صفحة، يوم الجمعة الماضي. وجاء استفتاء المحكمة بطلب من الجمعية العامة مطلع العام الماضي، حول العواقب القانونية الناتجة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، والاستيطان وضمها المتواصل لأراضي الفلسطينيين منذ العام ١٩٦٧، وتغيير التركيبة الديمغرافية في الضفة الغربية وطابع مدينة القدس، في ظل احتلال طال أمده، على غير الطبيعة المؤقتة للاحتلال. ووفقًا لنظام لاهاي لعام 1907، والذي يُعد عُرفاً ملزماً، يعد الاحتلال إجراءً قانونياً، يمكن لأي طرف أن يمارسه أثناء النزاعات، طالما أنه مؤقت ويتم تنفيذه وفقًا للقواعد الدولية. واعتبرت المحكمة في ردها على الجمعية العامة أن استمرار الاحتلال في الأراضي الفلسطينية ممثلة بغزة والضفة بما فيها القدس غير قانوني، وإسرائيل ملزَمة بإنهاء ذلك الاحتلال فوراً، وتعويض الفلسطينيين عن الأضرار التي لحقت بهم جراء ذلك الاحتلال الطويل، ووقف الاستيطان وإخلاء جميع المستوطنين من الأراضي المحتلة. ودعت المحكمة جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لعدم الاعتراف بشرعية الوضع في الأراضي المحتلة، وعدم التعاون وتقديم المساعدة لدولة الاحتلال، كما دعت الجمعية العامة للبحث عن الوسائل والإجراءات اللازمة لضمان انهاء الاحتلال وذلك الوضع غير القانوني في الأراضي المحتلة على وجه السرعة.
يعد رأي المحكمة تاريخياً بحق القضية الفلسطينية، ومنصفاً للفلسطينيين بعد عقود من الظلم الذي وقع عليهم. وتزداد أهمية رأي المحكمة اليوم عندما يقترن ذلك الرأي بتصريحات قيادة دولة الاحتلال، التي تؤكد على إصرارها على تجاهل القانون والعدالة والاستهتار بالمحاكم الدولية، واتهامها بمعاداة السامية. وتؤكد تلك التصريحات على توفر النية الواضحة والصريحة، والتي اقترنت بالفعل والممارسة عبر عقود ماضية، بانتهاك حقوق الفلسطينيين وعلى رأسها حق تقرير المصير، واستخدام الزمن والاحتلال الطويل، والمماطلة والتحايل على القانون، لفرض واقع آخر غير قانوني يتنكر للوجود الفلسطيني. لم تأت التصريحات الإسرائيلية فقط، التي تؤكد أن الأرض الفلسطينية المحتلة هي حق «ديني وتاريخي، لدولة إسرائيل، من قبل قيادة الحكومة اليمينية المتطرفة ممثلة برئيس وزرائها، بل جاءت من قبل ممثلي المعارضة الأقل يمينية أيضاً، ممثلة بـلابيد وغيره. إن سياسة الاستيطان التي أرستها حكومات دولة الاحتلال في فلسطين اليسارية واليمينية بعد احتلال ما تبقى من فلسطين في العام ١٩٦٧، جاءت لتحقيق هدف بعيد المدى لدولة الاحتلال، بالسيطرة الدائمة على كل الأرض الفلسطينية، وهو ما تجسد بعد ذلك في اتفاقية أوسلو، التي سعى من خلالها الاحتلال لضمان استمرار التمدد الاستيطاني الزاحف، والسيطرة على الأرض، مع محاولة تبديل المفاهيم والمصطلحات القانونية، لضمان تحقيق ذلك الهدف بإنكار حق الفلسطينيين في أرضهم.
يأتي ذلك الرأي الاستشاري كمحدد لواقع حالة احتلال لا لبس فيها، يترتب عليها حقوق للشعب القابع تحت الاحتلال، والتزامات قانونية محددة للقوة القائمة بالاحتلال في العرف والقانون الدولي. ويشير قرار المحكمة لتبعات سياسة إسرائيل كقوة محتلة تستخدم القوة المفرطة ضد المدنيين، والإجحاف الفاحش بحقوقهم، من جهة، ولواقع احتلال مخالف لطبيعته المؤقتة، حيث ترتب على اثر تلك المخالفة تبعات كارثية تنتهك حقاً راسخاً في القانون الدولي يتعلق بحق تقرير المصير، وتنتج انتهاكاً كبيراً للقانون يتعلق بالتمييز العنصري. تأتي تلك الحقائق التي رسّخها رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري كقواعد موجهة ومحددة لأي قضايا أخرى مرفوعة ضد إسرائيل في المحاكم الدولية. وتنظر محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية في غزة، رفعتها ضدها جنوب أفريقيا، قبل أن تنضم العديد من الدول اليها أيضا، كما تحقق المحكمة الجنائية الدولية في اتهامات بارتكاب إسرائيل لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة.