عروبة الإخباري –
مجلة شؤون عربية – الدكتورة نادية سعد الدين –
تُعدُّ المنطقة العربية الأقل استقرارًا بين أقاليم العالم، والأكثر قابلية للتأثر بمتغيرات النظام العالمي، بحكم قدراتها وإمكانياتها المحدودة وضعف تماسكها، لاسيما اقتصاديًّا وسياسيًّا، واتساع نطاق وعمق صراعاتها، ونزاعاتها البينّية، وأزماتها البنيوّية العميقة.
ومع تعثُّر الأنماط التعاونية القادرة على حل الخلافات وضبطها، فإن النظام الإقليمي العربي بات-غالبًا- مُهددًا بالاختراق الخارجي وظهور المحاور والأحلاف، وموئلًا خصبًا لأنماط متمايزة، وربما متضادة، من تدخل القوى الإقليمية والدولية ضمن ساحته، ما يعني- في المحصلة- السيّر بالمنطقة نحو مزيد من انعدام الاستقرار.
أولًا: “معضلة” الجنوب السوري:
يشكل جنوب سوريا تحديًا وازنًا لأمن واستقرار منطقة المشرق العربي، بعدما أضحى- على نحو خطير- عالقًا بين الغارات الإسرائيلية المتواصلة، وترسّخ إيران المتعاظم ضمن مناطقه الحدودية، لاسيما محافظة القنيطرة، وبين عمليات التجارة غير الشرعية، ما يجعله فتيلًا قابلًا للتفجّر في أية لحظة، ما لم تحدث تحولات بارزة في ديناميات مشهده الراهن.
وقد توفرت لإيران عناصر فاعلة للتمدد في منطقة جنوب سوريا، التي تضم محافظتي (درعا، والسويداء أيضًا)؛ نظرًا للتحديات التي تُواجّه النظام السوري في إدارته عقب استعادة معظم أجزائه سنة 2018م، ومحدودية الموارد الاقتصادية التي تُوطِّد الدولة السورية سلطتها من خلالها، وتراجع نفوذ روسيا لصالح انشغالها بالحرب في أوكرانيا، وضعف دور القوات الحكومية والروسية مع الاحتفاظ بحضورها الميداني، إضافة إلى تقلبات ساحتها المتوترة، مما شكل- بمجمله- بيئة مواتية لفرض الهيمنة الإيرانية، وتوسيعها مع مرور الوقت.
ينطوي هدف إيران على استغلال الأهمية الجيوستراتيجية المُعتبرّة لمنطقة جنوب سوريا لضمان نفوذها الجيوسياسي ضمن الساحة السورية وتعزيز مشروعها التوسّعي الإقليمي، بوصفها مدخلًا للتأثير في التطورات الإقليمية، وليست مجرد تخوم حدودية مع الأردن، فيما تمنح مرتفعات القنيطرة، المُطلة على الجولان السوري المُحتل والمُتاخمة للبنان، ميزة إضافية كنقطة ضغط ضد الاحتلال الإسرائيلي، خصمها التقليدي.
وخلافًا لتفاهمات عام 2018م، التي أُبرمت بوساطة روسية، شريطة إبقاء إيران وحلفائها بعيدًا عن المنطقة الحدودية_ فقد سعت طهران لتوسيع نفوذها في مختلف أنحاء جنوب سوريا، عبر الحضور واسع النطاق وامتلاك البنية التحتية الأمنية المتينة، مع التمتع بأفضلية وازنة في القنيطرة؛ نظرًا لطبيعتها الجبلية التي تُسهل إخفاء القوات العسكرية فيها، ودنوها من مركزها الحيوي في ريف دمشق، وقربها من لبنان، ولحيثيات الصراع المسلح المُندلع ضمن ساحتها، وماهية بنيتها الاجتماعية والديمغرافية التي أتاحت مدخلًا إيرانيًّا مناسبًا لنسّج العلاقات مع سكانها تحت ذريعة النجاة من تهديدات هيئة تحرير الشام “جبهة النصّرة سابقًا”، إلى جانب تفعيل شبكتها الأمنية لبلوغ الحدود والربط بين مناطق العمليات الرئيسة، أي ريف دمشق ودمشق والقنيطرة ومنطقة الحدود اللبنانية، بموازاة اتباع أسلوب الدعم، تمويلًا وتسليحًا وحماية، في بناء التحالفات، مما أكسبها دعم المليشيات المسلحة في أنحاء سوريا، وليس ضمن جنوبها فقط.
ومع ذلك؛ لم تتمكن إيران حتى الآن، أسوة بأي طرف محلي أو أجنبي، من بسط السيطرة المطلقة على الجنوب السوري، وإن كانت لاعبًا رئيسًا فيه، نظير تأثيرات الجماعات المحلية والقوى الإقليمية والدولية المتنافسة، التي نشطت بقوة لفرض الهيمنة تبعًا للنتائج الميدانية، وإزاء مرونة الروابط البينية وقابليتها للتحول، خلافًا لشمال شرق سوريا أو محافظة إدلب، الخاضعين لسيطرة “وحدات حماية الشعب الكردية” و”هيئة تحرير الشام” على التوالي، مقابل النفوذ التركي والأمريكي الملحوظ في شمال البلاد.
وتُواجه إيران تحديات كبيرة في جنوب سوريا؛ إذ يعترضها على المستوى الكلي صدى محلي- لاسيما من الغالبية الدرزية في السويداء، والسّنية في درعا- قد يصعب معه ترسيخ حضورها بين أوساط السكان، خلافًا للقنيطرة التي تكن العداء للاحتلال الإسرائيلي، الذي يعارض بدوره الوجود الإيراني في المنطقة، ويترجمه عبر الهجمات المتواصلة، منذ العام 2013م، والمتوالية بكثافة عقب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر عام 2023م؛ لاستهداف إيران وحلفائها داخل سوريا، وملاحقة عناصر الحرس الثوري الإيراني واعتماد نهج الاغتيال بحقهم.
وفي تحرك لافت، عززت روسيا وجودها على طول مرتفعات الجولان المحتل، بعد عملية 7 أكتوبر، بإنشاء عدد من مراكز المراقبة، مما قد يزيد الضغط على إيران، أو على الأقل يساعد في تخفيف وطأة المواجهة الإيرانية الإسرائيلية في جنوب سوريا، حتى لو لم تتمكن من استبدال النفوذ الإيراني أو إلغائه، ولكن في حال استمرت “طهران” بتعزيز موقعها قرب الجولان المحتل، أو نشر المزيد من السلاح هناك، فالتصعيد مع الاحتلال الإسرائيلي قد يصبح واقعًا لا مفر منه.
وتُبدي الدول العربية- لاسيما الأردن- قلقها إزاء المستجدات في الجنوب السوري، في ظل حالة انعدام الاستقرار والفوضى الأمنية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية حد إفراز مظاهر قاتمة مثل: تجارة المخدرات، وتهريب الأسلحة عبر الحدود مع الأردن، وفي الصحراء الملتفة على مدى الحدود الشمالية والشرقية مع العراق، وصولًا إلى الجنوبية مع المملكة العربية السعودية.
حاول الأردن معالجة القضية في إطار الانفتاح العربي على دمشق، صيف العام 2023، وأيضًا على المستوى الثنائي، لكن من دون تحقيق نتائج تذكر، ومع ذلك يواصل الأردن جهوده الكثيفة لحماية حدوده وأمنه الوطني، عبر التحرك دبلوماسيًّا مع الحكومة السورية، والتنسيق مع الدول العربية لصد الخطر الداهم، واتخاذ سلسلة إجراءات أمنية واحترازية مشدّدة، من خلال تطوير منظومة دفاعية أردنية وصناعات عسكرية متقدمة وتدريبات مكثفة لرفع مستوى الكفاءة والجاهزية لدى أجهزته الأمنية؛ لإحباط عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود من سوريا لأراضيه، ومواجهة التهديدات المحتملة، وصد أي محاولة من وراء تلك العمليات لخلق نقاط وبؤر توتر أمني لغايات استهداف الأمن الأردني.
ثانيًا: إيران وأمن المشرق العربي:
لطالما شكل المشروع الإيراني التوسّعي الإقليمي مبعث قلق وازن لدى الدول العربية، إزاء تهديد طهران المتواتر لأمن الملاحة البحرية في مياه الخليج العربي عبر استهداف ناقلات النفط العابرة له، وتوعدها الدائم بإغلاق مضيق هرمز الإستراتيجي، الذي يشكل المنفذ البحري الوحيد للعراق ودول خليجية كـ (الكويت، وقطر)، ومحاولة السيطرة على مضيق باب المندب، وإثارة النزاعات الحدودية والإقليمية مع جيرانها العرب، ومحاولتها التأثير في مستويات إنتاج النفط والأسعار، فضلًا عن مساعيها الدؤوبة لتغذية نفوذها في الساحات العربية، لاسيما (سوريا، والعراق، واليمن) عبر جماعة “أنصار الله” المسلحة، “الحوثيين” الموالية لها.
فيما تطل ورقة جماعة “الإخوان المسلمين”، المدرجة (سعوديًّا، وإماراتيًّا، ومصريًّا) ضمن لوائح الإرهاب، في واجهة مساعي إيران لتوظيفها، تحت لافتات التعاون والوحدة الإسلامية، وربما احتضان عناصرها، لاسيما الفارَّة من دول الخليج العربية ومصر وتلك المطلوبة أمنيًّا، بهدف تهديد المنظومة الأمنية العربية، ومناوئة خصمي إيران التقليدييّن (المملكة العربية السعودية، ومصر)، وزعزعة الاستقرار ضمن ساحتيهما وفك تحالفهما الوثيق، وخدمة مشروعها التوسّعي بالمنطقة، فيما ترى الجماعة في النظام الإيراني حليفًا محتملًا وسط الرفض الذي تواجهه أينما حلت، والضربات الموجعة التي تلقتها منذ عام 2013م.
وليس مؤكدًا أن يسهم نجاح مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني الموقع في عام 2015م، والجارية في فيينا، في الحد من البرنامج النووي الإيراني أو حسر الطموح التوسعي الإيراني الإقليمي وكف اليد الإيرانية عن تهديد المنظومة الأمنية العربية واستقرار المنطقة، وذلك عند تعظيم قدراتها الاقتصادية والعسكرية وتسريع خطوات امتلاكها السلاح النووي، مثلما لا توجد ضمانات كافية لاستعداد إيران لخفض التصعيد الإقليمي والنأي عن السياسات المناوئة التي تعارضها الجهات الإقليمية الفاعلة، عند فشل المسار التفاوضي واستمرار العقوبات الأمريكية على إيران، بما يغذي عناصر التوتر الأمريكي الإيراني القائمة، ولكن بعيدًا عن الذهاب نحو المواجهة العسكرية المباشرة التي لا ترغبها أي من الأطراف.
ثالثًا: تركيا والشمال السوري، تغيير إستراتيجي أم تكتيكي:
يشكل تهديد تركيا مجددًا بشّن عملية عسكرية واسعة في شمال سوريا حلقة ضمن حملتها الواسعة هناك، بحيث تتبع- وفق المخطط المرسوم- سلسلة ضربات جوية نفذتها ضد شمالي (سوريا، والعراق)، ردًا على مقتل 21 جنديًّا تركيًّا، مطلع شهر يناير 2024م، في شمال العراق، بما يعد حربًا تركية مزدوجة ضد وحدات حماية الشعب الكردية السورية (YPG)، التي تشكل القوام الرئيس لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، المشكلة عام 2015م، والمدعومة ماليًّا وعسكريًّا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها حليفًا رئيسًا في الحرب ضد تنظيم داعش بسوريا، والتي تعدها أنقرة “منظمة إرهابية” وجناحًا سوريًّا لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، المحظور والمصنف (تركيًّا، وأمريكيًّا، وأوروبيًّا) “منظمة إرهابية” ويخوض حربًا انفصالية ضد تركيا منذ العام 1984م.
غير أن اللافت هنا، استهداف القصف التركي لمواقع أعمق بكثير من نطاقها المُعتاد داخل الأراضي السورية؛ ليطال أهدافًا في (الحسّكة، وحلب، والرقة)، بدون الاكتفاء بضرب الأهداف العسكرية فحسب، بل أيضًا البنية التحتية المدنية، على غرار مصافي النفط ومحطات الطاقة، التي يُعتقد أنها تدر الإيرادات لحزب العمال الكردستاني، بهدف وقف مصادر تمويله، وإظهار أن وجوده يضر بأمن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي تتولى قيادتها قوات سوريا الديمقراطية، ولكن قد يؤدي التغيير في الإستراتيجية التركية إلى حدوث تصادم مع القوى الأخرى التي تضطلع بأدوار في سوريا، أي (روسيا، وإيران، والولايات المتحدة).
ويعد شمال سوريا بالنسبة لتركيا جزءًا حيويًّا من إستراتيجيتها تجاه الأزمة السورية، بهدف منع قيام دولة كردية ضمن ساحته، إزاء ما تعتبره تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي وتقويضًا لدورها المنشود في الساحة السورية ولنفوذها الطموح في المشهد الإقليمي، وإضعافًا لجهودها في مقارعة حزب العمال الكردستاني التركي، مما يفسّر زخم نشاطها عند حدودها الجنوبية، ومعارضتها الشديدة لإعلان دولة “كردستان العراق” الاستقلال؛ نظير خشيتها بانسحاب التجربة إلى داخل عقرها، بما يشكل جبهة ممتدة من شمال سوريا حتى الإقليم الكردي العراقي، قد تؤول دولة حيوية ذات منفذ مطل على البحر الأبيض المتوسط، ستقف حاجزًا أمام اعتماد “كردستان العراق” على خطوط الأنابيب التي تمر في تركيا وتعرض اقتصادها للخطر. ومن خلال مسعى تركيا الدؤوب لإحكام القبضة الأمنية على حدودها مع سوريا، تستطيع- وفق تصورها- إحباط أي محاولة لإقامة الدولة الكردية، ومنع تقدم عناصر داعش إليها، وعرقلة تدفق اللاجئين إلى أراضيها، مثلما يؤمن لها ضرب خصمها التقليدي، الممثَّل في حزب العمال الكردستاني، بجناحه السوري.
في حين تتيح سيطرة تركيا المنشودة على منطقة شمال سوريا، الغنية بالثروات النفطية والمائية والمشكِّلة لحلقة وصل بين الدول العربية وأوروبا_ التمتع بقوة إقليمية مؤثرة، وتعزيز نفوذها في الساحة السورية، بما يُسهِّل عليها فرض نفسها كرقم حيوي على طاولة تسوية الأزمة السورية سياسيًّا، في ضوء تصورها بأن من يملك حضورًا قويًّا على الأرض ستكون له الكلمة في رسم مستقبل سوريا.
رابعًا: شرق المتوسط والتمدد التركي:
يشكل النزاع على موارد شرق المتوسط بالنسبة لتركيا، أسوة بخلافها الممتد مع اليونان، حلقة وسيطة في دائرة مساعيها الدؤوبة لترسيخ نفوذها في المنطقة.
وقد برز ذلك مع التدخل المباشر في الأزمة السورية والجبهة العراقية وعبر ساحة المغرب العربي؛ قياسًا بالاتفاق مع ليبيا ومسعى التقارب مع الجزائر وتونس؛ لتشكيل جبهة ضغط على مصر، مردفًا بتعزيز العلاقة مع إثيوبيا واللعب على ورقة سد النهضة؛ لتعميق الخلاف حوله بوصفها أبرز المستثمرين فيه، ومن ثم التزاحم مع دول متوسطية حول الغاز والنفط، ومحاولة ترسيخ النفوذ في (البحر الأبيض المتوسط، وبحر إيجة، والبحر الأسود)، ومنافسة المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة؛ لاستحواذ مكانة المركز الإقليمي، فضلًا عن السعي من خلال حزب “الإصلاح اليمني”، المقرب من جماعة “الإخوان المسلمين”؛ لتأسيس موطئ قدم في الأراضي اليمنية، وذلك بهدف إحياء “العثمانية الجديدة” تحت مظلة الشعار الديني الذي رفعه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”؛ لاستمالة التيارات الإسلامية- لاسيما جماعة الإخوان- والذي تنبَّهت إليه المؤسسة العربية، وقصمت مصر ظهيره الإستراتيجي وأفشلته في المنطقة عام 2013 م.
غير أن أنقرة تلقت ضربة قاسمة أخرى من مصر في شرق المتوسط؛ بالتقارب مع (الأردن، والعراق)، مما يجعل تجمعهم الثلاثي، الذي ينضوي طرفاه المصري والأردني ضمن عضوية منتدى “غاز شرق المتوسط”، الذي تشكل في يناير 2019م، ومقره القاهرة_ تكتلاً مضادًا لأهداف تركيا الاقتصادية والسياسية ضمن ساحتها، توازيًا مع التحركات المصرية على خطي (اليونان، وقبرص اليونانية)، إلى جانب علاقاتها الوطيدة مع دول الخليج العربية؛ لبلوغ صيغة إقليمية في مواجهة التحديات المحدقة بالإقليم، وضمان سلامة منظومة الأمن القومي العربي ودعم استقرار المنطقة.
وبالتالي؛ فإذا كان التمدد التركي في المنطقة وعبر مستويات التفاعل الدولي المختلفة يدل على طموح إستراتيجي تركي، لكن القدرة على تحقيقه بتوظيف المركزية الإقليمية والارتباط مع القوى الغربية في بعض الجوانب، والتشبث بالعلاقة مع الأطراف المناوئة في المنطقة، كما مع الإخوان وإيران ضد الأكراد وضدها في سوريا، لا يتوازى مع مساحة ذلك الطموح، مما يدفعها إما للمضي فيه بطرق أكثر عدائية- لاسيما عند إبقاء العلاقة مع الإسلام السياسي بنسخته الإخوانية بوصفها رهان “أردوغان” للتمدد الإقليمي والإستراتيجي التركي بالمنطقة، أو لإعادة النظر في حدوده باتجاه تقليصه إزاء احتمال حدوث تحولات تركية داخلية مرافقة قد تدفع نحو تحجيمه.
خامسًا: علاقات إقليمية ودولية متضادة:
تصطدم مصالح القوى الإقليمية والدولية المتداخلة ضمن ساحة منطقة المشرق العربي؛ فإذا كانت إيران تتشارك مع تركيا في الخشية من إقامة الدولة الكردية في سوريا، تحسبًا من قلق محاكاة التجربة داخل أراضيها التي تضم من الأكراد حوالي (8- 10) ملايين نسمة يعيش معظمهم في غرب وشمال غرب البلاد، رغم جهودها، عام 1946م وبعد عام 1979م، في “قصقصة” أجنحتهم بالقبضة الحديدية وإحباط تطلعهم للكيان المستقل، فيما تنظر إلى قوات “قسد” كأداة أمريكية لمواجهة النظام السوري وتجزئة الأراضي السورية شمالًا_ إلا أن رؤيتها متمايزة عن تركيا حيال طبيعة الأزمة السورية، بعيدًا عن حالة التقارب الثنائي التي برزت في مباحثات “سوتشي”، برعاية روسية عام 2018م، ومحادثات مسار “أستانا”، الذي تشكل (روسيا، وتركيا، وإيران) الدول الضامنة له، وذلك إزاء الخشية الإيرانية من الوجود التركي في سوريا، بوصفه تهديدًا طويل الأمد لمستقبل الرئيس السوري “بشار الأسد”، وللمعاقل الساحلية الشمالية للنظام السوري، وعرقلة التقدم الإيراني الجامح نحو البحر الأبيض المتوسط، وهي خشية إيرانية تنسحب أيضًا على الساحة العراقية من تراجع نفوذها أمام المزاحمة التركية الشرسة.
ويطل هنا ثِقل الوجود الأمريكي في الشمال السوري المضاد لمساعي إيران التوسعية، غير أن الولايات المتحدة لا تزال غير مستعدة لأي تغيير في الوضع الراهن أو فتح قنوات اتصال مع النظام السوري، بينما تحتفظ بتواجد عسكري كبير في المنطقة العربية، في حين تولي روسيا أولوية لتعزيز مسار التقارب السوري – التركي بوصفه فرصة مواتية لإصلاح العلاقات الثنائية، والتأسيس على المصالح المشتركة التي تجمعهما في مواجهة “قوات قسد”، بينما توظِّف دورها النافذ في الشمال السوري، تجاه إعادة دمج المنطقة الشمالية – الشرقية السورية ضمن سيطرة الرئيس “الأسد”؛ لمنع تركيا من الاستيلاء عليها وتهديد تواجدها في شمال غرب سوريا بمناطق التماس حول محافظة إدلب، حيث ترتبط روسيا مع تركيا بشأنها بعدة اتفاقات أمنية منذ عام 2019م، فضلًا عن مخاوف إعادة ترتيب خريطة النفوذ في الشمال السوري.
وفي نفس الوقت، تتوطد العلاقة بين (موسكو، وأنقرة)، لاسيما في مجال الطاقة وقطاعات اقتصادية حيوية؛ إذ يعتمد الكرملين على تركيا لتوفير مستويات من الدعم من أجل تخفيف وطأة العقوبات الدولية. وفي ظل هذه الظروف، فإن تقديم تنازلات لتركيا في سوريا ليس مستبعدًا.
في الجهة المقابلة، تدور محادثات ثنائية بين (العراق، والولايات المتحدة الأمريكية) بشأن انسحاب “قوات التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية” من العراق، وسط خشيّة داخلية من ملء إيران للفراغ الناتج (سياسيًّا، وعسكريًّا)؛ لتكريس نفوذها في الساحة العراقية، وإحباط أي محاولة عربية لضم العراق إلى محيطه العربي من جديد، فيما قد تتخذ تركيا من حملتها المناهضة لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق ذريعة لتأسيس وجود عسكري طويل الأمد هناك، مصحوب بنفوذ سياسي وقوة اقتصادية، وشغل مساحات من إقليم كردستان توظفه كورقة ضاغطة على الإقليم، ما يعني تراكم مسوغات مضاعفة من الإضرار بكيان العراق الوطني.
يأتي ذلك في ظل صعود النفوذ الآسيوي في منطقة المشرق العربي، وإن كان بحراك بطيء، فمع تنامي الاعتقاد لدى دوائر سياسية عالمية، وإقليمية ومحلية بتراجع مكانة الشرق الأوسط في الإستراتيجية الأمريكية، برز مشروعان آسيويان مهمان هما: مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، منذ إعلانها عام 2013م، ومشروع “الممر الاقتصادي” لربط الهند بأوروبا عبر (السعودية، والإمارات، والأردن، والاحتلال الإسرائيلي)، الذي أعلن عنه عام 2023م؛ حيث يشكل البعد الاقتصادي- لاسيما النفط والغاز- معطى مهمًا لدوافعهما السياسية.
إذ تسعى الصين لملء الفراغ الناتج عن التراجع الأمريكي في المنطقة العربية والتمدد دبلوماسيًّا واقتصاديًّا ضمنها، مع إيلاء أهمية تهدئة نزاعاتها لتهيئة المناخ المناسب لنفاد مشروعها، وهو ما يفسر الوساطة بين (السعودية، وإيران)، واحتمالات تزايد دورها الدبلوماسي في موضوع تسوية القضية الفلسطينية، غير أن إعلان السعودية والهند عن مشروع “الممر الاقتصادي”، يمثل مشروعًا منافسًا لمبادرتها، وهو ما يفسره الترحيب الأمريكي والإسرائيلي الشديد به، على عكس إيران التي لا تنظر إليه بارتياح خلافًا لنظرتها للمشروع الصيني.
وإذ كان عدم الاستقرار في المنطقة قد يربك تنفيذ المشروع الصيني، فإن هناك إشكالية مدى التشبث الأمريكي بتعطيل المشاريع الصينية في المنطقة في ظل التنافس بينهما، خصوصًا مع اعتماد بعض الدول العربية الخليجية بشكل كبير على التسلح الأمريكي، وعمق التغلغل الأمريكي في ساحات عربية مضطربة.
ويُلاحظ هنا أن التنافس الاقتصادي والتكنولوجي بين (الصين، والهند)، في ظل سمة العداء والتوتر الغالبة على علاقتهما، قد امتد إلى المنطقة العربية، مما قد ينعكس على علاقات الدولتين مع الدول العربية من ناحية، وقد يضيف للمحاور المتنافسة بالمنطقة أخرى جديدة من ناحية ثانية، فيما قد تجد الدول العربية نفسها، لاسيما التي يمر منها المشروعان (الهندي، والصيني)، أو أحدهما، أمام ضرورات الاختيار بين العملاقين، بما يضعها في صدام مع أحدهما، ويزيد حالة عدم الاستقرار في المنطقة.
وفي المحصلة: لن تعرف منطقة المشرق العربي الاستقرار في ظل دوام غلبة أزماتها البنيوية العميقة واتساع نطاق صراعاتها ونزاعاتها البينية، وتعثر أنماطها التعاونية، واتجاهها نحو “العسكرة” على حساب تفاعلاتها التنموية والتكاملية وتحويلها إلى كتلة اقتصادية – سياسية قادرة على التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي، ما جعلها عرضة للاختراق الخارجي، وساحة مواتية لتدخل القوى الإقليمية والدولية المتضادة.