قراءة في رواية صياد الغروب لأم الزين بن شيخة صياد الغروب بين الم الأفول و أمل الشروق

عروبة الإخباري – ربيعة عروس هديدر

شغلني العنوان مذ وقعت عيني على الرواية إلى حد السكن، واستفزني،  فطفقت استنطق مدلولاته قبل الاطلاع على متنها و اخمن  ما يرمز إليه من  معاني الصراع بين الحياة و العدم و بين الياس و الأمل أو بين الإشراق  و الظلام القادم من الليل،او بين الحركة و السكون ، كلها احتمالات ممكنة و تلمست ذلك  منذ بدأت استكنه ترتيلة الوداع. لقد هالني الخطاب بعمقه وشعريته ورموزه الكامنة خلف الضباب والغموض  والخيال

أه  ما امكر اللغة وما اخبث قواعد النحو إنها معتقلات كبيرة و صحارى و جنائز منطقية  و “من قال إن الحجر لا عالم له ؟”ص13

وقد تحول التخمين إلى يقين عندما ولجت إلى اللوحة الأولى .

….”و كان” القبل” سحابة من الغبار العابرة فوق احزانه القديمة….وكان المكان الملتحف  بصمته الموحش قد سبقهما معا إلى ذاك “الهناك” كحنجرة ضيعت كل حبالها الصوتية.”ص15

راق لي الخطاب و وجدتني ماخوذة بسحر البيان و تمرد اللفظ يسافر في عوالم مختلفة من أساطير الأولين إلى التاريخ القديم وصولا إلى عهد الثورة عهد الربيع العربي كما يزعمون وما هو بربيع بل هو خريف تتهاوى فيه الأوراق  حتى الاستنزاف أو  شتاء في قلب الشاهد و الغائب، ليله قاسي الصقيع، بطيء الكواكب “،اه  الثورة ! للثورة مسمار آخر في قلب الحكاية”،ص19

طفقت ألتهم السطور بشراهة و نهم، وقد استفزتني حمة القرم، وانكببت على متابعة تفاصيلها و احداثها تنزلق  في هوة لا يعلم سحقها غير الساردة ،  بل تتدحرج كصرخة سيزيف  هازئة من عبث الأقدار.

تلبستني الرواية كجنية الخرافة و اقبلت عليها إقبال المدمن على السلافة و قد سرق مني نومي و الاهتمام مثلما سرقت النار من الٱلهة.

إننا إزاء نص ممتع وجريء على ما فيه من اوجاع

لقد تمردت الكاتبة على ثوابت اللغة  و سنن السرد، فتحررت من  خطيته  ومن قيود النحو و ركاكة الاستعارات المستهلكة، و طوعت المفردة لتحقيق برنامجها في صياغة نص روائي فلسفي ذهني و على ذهنيته لا تجده منبتا عن الواقع اليومي الاجتماعي و السياسي .

تتعدد اللوحات، و تزدحم الموضوعات،  تضج بأسئلة حارقة في شعرية  رائقة،  و سخرية بارقة ، “يقرع باب و يغلق باب، نهار في حالة غياب، و سماء نحيلة تأكل الضباب”….    لقد صادروا مشهد الغروب وباعوه لمدينة خارجية من أجل تسديد ديون  البلاد. هكذا اعلنت قارئة نشرة الأخبار و هي تصر على إضافة مساحيق أكثر توهجا إلى وجنتيها “ص39،

هكذا يكون الإمنتاع و المؤانسة شرط كل إبداع.

و قد بدت لي الرواية نسيجا حيك على غير سابق منوال، و طرازا استغلت فيه المؤلفة مختلف الألوان و الأشكال، و  قسمتها إلى لوحات إخالها  تقاسيم  فنية لصور إبداعية اجتهدت  في نحتها، و على القارئ أن لا يفوت فرصة القنص للاستمتاع بالنص .

رواية صياد الغروب هي رواية صيد العقول والقلوب،  هي مزيج غريب من الواقع و الخيال و تزاوج بين  قوالب السرد و  الشعر خصيب ،و هي إلى ذلك مراوغة مخاتلة إلى حد الإرباك ، “هذه الرواية تتطلب قارئا جريئا و فطنا و حذرا ايضا،”  عل حد عبارة امينة زريق.  فبقدر ما تبدو لك شطحة  من شطحات الخيال ،تزج بك في يم الواقع لا توهمك به بل تدخلك إلى اعماقه،و تفاصيله تزج بك في رحلة الذاكرة ، تاخذك إلى الحومة حيث يلعب الأطفال و يتسابقون، و  يكركرون ، تشهدك على اعراس سرسينا على وقع  انغام الطبل والمزمار ،انغام ترقص الأبشار و الأحجار “و من قال إن الأحجار لا ترقص؟”

تذكر اسماء حقيقية لشخصيات معروفة في الجزيرة (نعيم، علي كمون، )واحداثا وقعت حقيقة  كفوز صياد الغروب بجائزة أحسن فنان فوتوغرافي في مهرجان الجزر المتوسطية ص 47

فالحدث حقيقي والمناسبة ايضا حقيقية و الفائز هو كريم أخو المؤلفة  الذي خصته بالإهداء، و بعثته شخصية ورقية في الرواية باسم  ايوب ،و اشارت إلى تعمدها  التشابه بين شخصياتها و أشخاص واقعيين في ملاحظتها”هذه الرواية حقيقية إلى حد البكاء .و أي تشابه بين شخصياتها و أشخاص واقعيين هو تطابق مقصود إلى حد الحب”

او.حدث موت ابن العم ،فهو حقيقي أيضا.

و كأتي بها في هذه  الناحية  تتمرد على مفهوم الواقعية باعتبارها ايهاما بالواقع  واعادة تشكيله.

و كم استمرأت  هذا الأخذ اذ يندر أن تجد ساردة تتجول بنا في ازقة القرية و ثناياها و تمر على القرى العامرة في نشوة غامرة، انها تحدد جغرافيا المكان تلك الجزيرة النائمة  على سدة  الإهمال  و النسيان. بيد أن هذا الجانب الواقعي لا ينفي إبحار المؤلفة في محيط السريالية، و تحليقها في أجواء اللامعقول، تتصرف في الزمن تمدده كتمديدها زمن الثورة إلى عشرين عاما ،ترسم حاضرها،، و تستشرف مستقبلها، أو تنطق الأجنة يعبرون عن ٱلامهم و ٱمالهم وٱرائهم و أحكامهم في لوحات سريالية خيالية تخاتلك و تربكك.

ولا شك أن الإيغال في الخيال  إلى حد الهذيان مقصود  وإن كانت لفظة الخيال فضفاضة و قد يحتاج إلى دراسة من حيث ٱلياته، و مصادره و وظائفه .

أن الخيال جنوح عن الواقع الموبوء، و لعله احتجاج العقل المثقف على اللامعقول السياسي والفكري و الاجتماعي و الأدببي، و كثير هو الركض وراء الخيال، كأن الراكض يهم بملاحقة طريدة ما، لذلك لم يكن هذا الجنوح بمعنى الهروب بقدر ما هو اختيار كالجنون و “الجنون سلاح اخطر من سلاح العقل.” هو  احتجاج على كل اشكال الفساد

و قد “عجبت من بيانها في هذيانها” بيان  يكشف ما ستر، او يميط اللثام عن الخور، وهذيان ممنهج وظيفي يفضح العيوب و القصور في المؤساسات و  البشر..

لقد  استطاعت المؤلفة بمهارة فائقة أن تطوع الخيال و اللغة وقوالب السرد و الشعر لتحيك خيوط الرواية  ومقتضيات الحكاية وهي ليست حكاية بل هي حكايات و قصص. و الملاحظ حضور لفظة قصة و اخواتها حضورا مكثفا لافتا حتى خلتني أمام شهرزاد جديدة مغرمة بالحكي و بان تجعل لكل شخص من شخوصها قصة قد يظل حبيسها يكفكف عبرة تترقرق، و قد يفلت منها بمحض ارادته يروم البحث عن قصة جديدة،تنحت كيلنه فيتحقق.

“وبعض القصص مذابح لأرواح تتألم من الداخل جدا” ص18

ولأن  المسالة نكون أو لانكون،  فحري بكل شخصية تروم تحقيق كيانها أن تغير اقدارها، وترسم لحياتها الخطوط التي تليق بكينونتها، و لأن كل شيء قصة فلا مناص من أن تتعدد القصص فتتنوع الموضوعات، سيما و أن الكاتبة تصوب مجهرها على  شتى المجالات تعالجها بعمق  وتنقدها في سخرية لاذعة ، سخرية ،سوداء    تحمل على  الضحك و لكنه ضحك كالبكاء، ترسم على الشفاه ابتسامة عريضة، “ثم جاء شرشبيل:”سأقضي عليكم و لو  كان ذلك ٱخر عمل في حياتي”.

ابتسمت وردة من وراء ستار الخيال و قالت”يبدو أن المستقبل سنفوري بإمتياز”،ص172

هكذا يكون الإضحاك فنا وفلسفة ، فنا لما يقتضيه من تفنن في الأساليب عبر تورية لطيفة، أو استعارة خفيفة، أو  غير ذلك.  و فلسفة لأنه يعبر عن موقف من المجتمع و الوجود. و كم طاف  بخيالي طيف المعري يسخر من ابن القارح يجعله معينا لا ينضب من العيوب. و المؤلفة هنا تعري” أبناء القوارح “في تهكم صارخ،  و باسلوب فاضح، بجراة عجيبة، أو بتعبير ملمح، و مراوغة غريبة، اذ تعزف المفردات على وتري التجلي والتخفي.

“نحن أمة تتالق في إبداع بؤسها و كوارثها”ص50

يقال إن الشتاء في دولة الحراس قد تم بتر بعض أعضائه…تخفيفا من كلفة العناية بمياه الصرف الصحي التي تفضح دوما  أخطاء  وزارة التجهيز” ص117

..

ولا يفوتني أن أذكر أن هذه السخرية قد سبكت في قوالب لغوية، خاصة معجمية، تخفي المرارة و الاسى، و يتحول الشعور بالألم إلى احتجاج لغوي على اشكال العنف و القهر و الاستفلال و الجهل. فكثيرة هي العبارات الدالة على الاشمئزاز  و  الشعور بالقرف إلى حد التقزز (مدينة القمامة الكبرى،مزبلة الادب ،مبولة الوطن….وغيرها كثير  كالبراغيث و البعوض و الذباب، و كأنني بها تستدعي الأدب الوجودي، فيحضر إلى ذاكرتي  سارتر بذبابه و برواية الغثيان ما يحمل على الإقرار

بذهنية الرواية. و معلوم أن الفكرة في  الأدب الذهني  تمثل العصب الحي  لذلك قلت الأحداث نسبيا   حتى البطل اقتصرت حياته أو كادت على حدثين ،”هكذا كان يقضي ايام الصيف،في مقهى الميناء صباحا و حذو البحر لالتقاط صور عن الغروب مساء. كل عالمه ملخص في هذين الحدثين  و كل يوم يتبدل ايقاع النهار و طعمه بنوعية السمك،التي يقتنيها من البحارة صباحا و بعدد المعجبين لصور الغروب على  صفحته ليلا،ص 60

وقد حضر الحوار الباطني ببكثافة يستجلي افكار الشخصيات ويكشف مٱسيها و انتهج الرمز ليجعل اللغة حبلى بالمعاني فلفظة  الغروب مثلا و هي حاضرة بكثافة تتجاوز معناها الحقيقي لتعبر عن مدلولات عدة منها الموت و الأفول الذاتي بمعنى الانكسار و غير ذلك،” وكانت آخر كلمة قالتها له قبل رحيلها :”لم اعد.اتحمل الحياة مع شخص لا يحب غير  الغروب. سوف أرجل بحثا عن شروق في مكان  أجمل.” لكنها الآن صارت غروبا لا شروق له. أما ايوب قد صار من امهر صيادي غروب يبشر بشروق آخر “ص200

والعنوان في حد ذاته  لا يقف عند صفة البطل يصارع العجز و القدر و يصنع لنفسه سبيلا لنحت ذاته و تجاوز ماساته بل يوحي  بمسائل وجودية  و قضايا ذهنية  كصراع الإنسان ضد الخواء في الذات و المجتمع  و الوجود و قد البست الساردة  شخصية ايوب ازار الفيلسوف فجعلته ينطق احيانا بالحكمة في حواره الثنائي أو الباطني ،:و احيانا يتبدى في ثوب البطل الوجودي،”ما اجمل الماضي حينما ينهار المستقبل تحت مكر  القدر.لكن من يصنع اقدارنا ؟اذا كان وراء هذا الألم رب فلن يكون سوى اله ماكر ،لعبته المفضلة هي التفنن في إيلام البشر!”

هكذا كان ايوب يفكر في صمت….ص46

واني أرى أن ليست البطولة حكرا على ايوب فحسب بل تشمل الغروب  أيضا فالعنوان يجمعمها معا الصياد والطريدة.

ولا يقف الرمز عند حدود اللغة بل تصبح الشخصيات رموزا للأفكار و كذلك المكان والزمان  وفد كادت الاحداث  تنحصر في اطارين عامين جزيرة  قرقنة و مدينة القمامة لأنهما بؤرتها  و محمل الأفكار و القضايا الاجتماعية والسياسية و الأدبية و الذاتية أيضا ،فنحن  إزاء الف قصة وقصة،:قصة ايوب ،قصة وردة، هند، فرح ،قصة الأجنة بمختلف ارقامهم،قصة الشيخ يموت في السجلات وهو لا يزال على قيد الحياة، قصة الثورة الموؤدة، قصة البراغيث و القوانين التي تمنع تعاطي الروايات و تجرم أكل اللحم و الضحك و الأحلام وقصة الأدب و الأدباء .و من وراء هذه الشخصيات تطرح قضايا الإدارة و العدالة و الظلم و الاستفلال و الفساد و الإرهاب و الصحة العمومية   و القضايا الوجودية كمنزلة الإنسان في الكون  و ،الجبر و الاختيار و  الصراع مع الزمن ..و منزلة الفن..و غير ذلك مما  يقتضي دراسة  و بحثا معمقين.

و بذلك  تتجاوز الكاتبة  الشواغل الاجتماعية والسياسة و الادبية  إلى المسائل الفلسفية  والوجودية فتتعدى الحدود الضيقة و تكسب الرواية طابعا انسانيا . تلك هي الواقعية الجديدة   فينضاف الأثر إلى ما يعرف  بالأدب الذهني   كأدب محمود المسعدي و ادب نجيب محفوظ   و الطيب صالح و غيرهم. و ان كان لكل اديب بصمته الخاصة. و قد تتميز الرواية عن بنات جنسها بالحضور اللافت للشعر و توظيفها الخيال على غير  سابق منوال والشعر يحضر في الرواية بجنسه وفي القول الشعري بعبارة ارسطو

و هو على  حد عبارة نصر سامي “لا يقع موقع التزيين بل يقع من الرواية في صميمها،”

“قهوة طائشة و قطعة سكر

و حرف يتعثر مفزوعا بين  غروب عابر واله اكبر

وقف النهار شاهرا شمسه و الياسمين

كانت تبعثر الحكاية عمدا .تخطف المدى

و تنثر  الدمع في عيون لا ترى

يأكل المطر غيومه و ينام

لغة تأكل جلدها كي تستتريح على قارعة الغمام”

بهذا القول الشعري اختم ملاحظاتي حول أثر فني أستمتعت بمطالعته و وجدته مهرجانا من الفنون من نثر و شعر  و رسم مختلفة الوانه و فن تشكيلي  و  حكي يحملنا إلى أجواء الف ليلة وليلة و من  فلسفة  و ليس هذا بغريب على فيلسوفة مختصة في فلسفة الفن  و اهل مكة ادرى بشعابها وشاعرة مبدعة ،فشكرا على هذا النص الرا ئع الذي لا يمل من مطالعته، و على ما فيه من الم ومٱسي ،لا يعدم الأمل والحلم بأن ” وحدهم الأطفال   سينقذون العالم من فظاعاته ص 138″و بأن الثقافة  و الفن بصفة خاصة الوسيلة لمحو الٱلام وهزم الكارثة

” ٱلٱلام نكتبها لنمحوها لا لنبكي عليها ص145.

طالعت الرواية اكثر من مرة دون ملل، وقد الوذ بها كلما سكنني  الأسى او  الضجر، تؤنسني  بزحمة

الأصوات فيها و تمتعني بشعريتها و طرافة أسلوبها و بما حوته من سخرية .

ربيعة عروس هديدر

من جزيرة الإلهام قرقنة

مارس 2024

 

Related posts

الدكتورة سمية الناصر : الأقنعة هي أكبر دمار للسلام الداخلي

“شباب كوم” مع آلاء المجالي.. برنامج جديد يواكب طموحات الشباب على التلفزيون الأردني

انطلاق مهرجان الفضيلة العروبي الدولي الأول للشعر