فنّ الاعتزال في زمن التّهافت* د. ماجدة داغر

عروبة الإخباري – مجلة الحصاد –

“طال اغترابي في بلاد المتوحّشين، أيّتها العزلة، أنتِ وطني”. (نيتشه)

العزلة معجزتنا الأخيرة في زمن الاغتراب.

زمن يتواطأ مع البشر والأقدار لابتكار مفاهيم مستحدثة ممسوخ جلّها، تترنّح بين الهجين والعقيم، لتنتج إنسانًا مسلوب الوعي والإرادة، آليّ الفكر والعيش، مشتّتًا، مبعثرًا، منزوع الذّاكرة والأنا والهويّة والتاريخ والقِيم، مطيعًا، متلقيًّا، معتنقًا “العزلة الشّريرة”، ومُبرمَجًا بما يكفي لتدمير ذاته والكوكب.

الاغتراب في هذا العصر سِمة مؤكّدة. والعزلة فيه حدث يوميّ محتّم. هي للعامّة حدثٌ أبله يمعن في إفراغ “المعتزِل” من بقيّة الرّوح، وهي العزلة الشرّيرة القسريّة المتمكّنة من أسر المعتزل في السّجن الهائل ذي القضبان الوهميّة اللامرئيّة، التي يهندسها بنّاؤو “السيستم” العالمي بحِرفيّة جذّابة ومهارة قلّ نظيرها.

الصّمت الصّاخب خلف هذه القضبان، هو المشروع القاتل الذي تنجزه البشريّة بأيدي الحمقى وذكاء البنّائين، في عالم لا يتوقّف عن الكلام ليسمع نداء القلب واستغاثة الرّوح. الصّمت في هذه العزلة هو الصّوت المتواري خلف النّداء، وليس الصّمت المقدّس للعزلة الإراديّة، للانطوائيين القاصدين السّلام والرّكون إلى ظلاله.

هي ليست عزلة إبراهيم الكوني الذي قال “العزلة ليست انقطاعًا أو اغترابًا، كما يظنّ البلهاء، ولكنّها معجزة، بل هي المعجزة الوحيدة التي جعلتها الأقدار في متناول الجميع”. ثمّة من يبحث عن هذا الملاذ فتقوده دروب “السيستم” إلى العزلة الأخرى. وثمّة من يجده “لأن العزلة ضرورية لاتساع الذات وامتلائها” كما عند نيتشه، محاربًا بها فراغ العالم وقسوة السّجن الهائل.

معجزتنا الأخيرة والوحيدة في زمن غابت عنه المعجزات. عزلة مقدّسة لترتيب أفكار يبعثرها الأغبياء والأشرار. عزلة مرئيّة مغرية للبحث عن أسباب الانطفاء، عن متاريس نخبّئ خلفها بعض أحلام، عن أمكنة تلاشت وذاكرات قضمتها العزلة الشريرة، عن منابع النّور ومرثيّات الوهم، عن أسماء السّعادة الحُسنى ولقائها المستحيل. عزلة مغرية للبحث عن توريةٍ بليغة و”سوناتات” شيكسبير، وعن الشاب الذي سيعيش إلى الأبد في القصيدة طالما ستتمّ قراءته.

عن بلوغ ذروة النّفس الهائمة، و”النفس الكئيبة التي تجد راحة بالعزلة والانفراد، فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريح عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت” كما عند جبران. عزلة للبحث عن سرديّات الحب، ولعنة الموت عشقًا، وسبب مقنع للحياة. عن زهرة الخلود وسرّ العبق، عن طمأنينة النّوافذ المطلّة على منحدر، عن فنّ الاستمتاع بالوحدة وعن تنازلات صغيرة تغيّر وجهة الزّمن.

فنّ العزلة لإعادة تشكيل العالم، فنّ الاعتزال في زمن التهافت

Related posts

صدور كتاب الأردن وحرب السويس 1956 للباحثة الأردنية الدكتورة سهيلا الشلبي

وزير الثقافة يفتتح المعرض التشكيلي “لوحة ترسم فرحة” دعما لأطفال غزة

قعوار افتتحت معرضها الشخصي “العصر الذهبي”