يحيلنا فيلم “جميلة” القصير، في حدود ثمانية دقائق، الذي أخرجه د.الحاكم المسعود لجهة عنوانه، الذي حاز للأردن مؤخراً على جائزة مهرجان كان العالمي للأفلام القصيرة، في فرنسا، إلى رواية “جميلة” (القصيرة) للكاتب السوفيتي جنكيز ايتماتوف، والتي جاءت وكأنها بشارة مجددة في هذا الأدب، الذي بدأ يأفل مع مرحلة مراوحة الإشتراكية في محلها اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً.
فجاء الشكل الأدبي والرسائل في هذه الرواية، جداً مغايراً عن النتاج الجمالي الذي ينطوي عليه جُل هذا الأدب الذي هرم.
ووجدت نفس فكرة المغايرة، ولحد ليس في القليل، في الفيلم “جميلة” الأردني، من حيث صياغته الجمالية، حيث حضرت فيه القطيعة، مع البنى الدرامية، والفنية الشائعتين في الأفلام، سواء القصيرة أو الطويلة.
فعناصر كالتمهيد، والتحضير، والتفسير، والتأكيد والمقارنة، والحبكة، وإنشاء الشخصيات، والحوار، والتي تكون عادة حاضرة في أي صياغة درامية، كانت متواريه وإلى حد ليس بالقليل، لصالح الصورة، الخالية من الخلفيات التقليدية المكتظة بالبيئة، لصالح فعل الشخصية بما تعج وتمور من فعل عاطفي، وفعل أنساق الجسد.
وكانت ذروة التجريب؛ في السياق السميائي البصري في وجود جدار، كانت الشخصيات اللاجئة تحاول اجتيازه دونما أن تنجح في ذلك، مما أحالتنا إليه مدلولاته ومعانيه الرمزية والاجتماعية والنفسية، إلى أننا أمام (جدار برلين)، الذي يمكن للمشاهد لهذا الفيلم، وبحسب ثقافته وتجاربه الحياتية، أن يخلص إلى معناه، أو ربما إلى غيره من المعاني الأخرى.
هذا الجدار الذين حاولت الشخصيات من خارج العالم الغربي اجتيازه، إلى عالم الشمال، فتأويل المعنى انزاح رمزياً إلى أنه (جدار برلين)، الذي كان المهجرين والمغتربين سواء طوعاً أو قسراً، يحاولون اجتيازه، الذي انهار مع غياب الأتحاد السوفيتي ومنظومته الإشتراكية، حيث كان الجدار الفاصل بين الشرق والغرب.
كما وجاء المعنى ضمن الإحالات الأخرى التي يمكن للمتلقي التوصل إليه، إلى أنه جدار اجتماعي، حيث تبين لهذه الشخوص اللاجئة التي هاجرت، أنه لو بقيت في مكانها السابق قبل اللجوء، أنها لربما كان يمكن لها أن تنجح في تمكين نفسها على مختلف الصعد، وكذلك أظهر سياق الأحداث أنهم كانوا يستطيعوا اجتيازه لو تقدموا خطوات أخرى إلى يساره، حيث كان مفتوحاً، إذْ دخل أحد الإفراد من الجهة الأخرى إليهم.
كما وانه أيضا دعا تيار الوعي لهذا الفيلم، من الناحية السلوكية السيكوبوجية الإنسان أينما كان، إلى مغادرة التفكير بالطرق السائدة، التي تميل إلى التكرار، نحو السير بالتفكير والمبادرة المغايرة الخلاقة.
ويجيء عادةً الانشغال في التجريب في الفضاء السمعي والبصري، سواء كان مسرحياً، أو سينمائياً، بعد خبرات طويلة، من العمل الفني والانتاجي، والتي انشغل المخرج د.الحاكم المسعود فيهما سابقاً، بعد تخرجه الجامعي، فيما يزيد عن أل (15) عاماَ، في السينما والدراما الصينية، قبل خوضه هذه الصناعة في الحراك الدرامي المحلي، سواء على مستوى التدريس الأكاديمي، أو من خلال إنشاء الأعمال المسرحية، والأشرطة ذات البناء السينمائي.
وبالتالي عكس المعطى السابق، على انتاج وصناعة فيلم “جميلة”، الذي جاء عملاً جماعياً، بدعم من نقابة الفنانين، وجامعة لومينوس، وعمان الأهلية، والهيئة الملكية الأردنية للأفلام، وغيرها من الجهات الأخرى، في أن ينجح في التنافس، مع أفلام ذات مستوى فني رفيع،سواء من الولايات المتحدة الأميركية، وإيطاليا، وإسبانيا، وألمانيا، وغيرها من الدول الأخرى، لكن المفاجأة جاءت ليست بالقدرة على التنافس فقط، لا بل بالفوز بجائزة المهرجان على هذا المستوى العال عالمياً.
إذْ أنه بعد أن قامت لجنة التحكيم في هذا المهرجان، من نقل هذا الفيلم “جميلة” من التنافس داخل فئة الأفلام ذات الإنتاجية المحدودة، إلى الأفلام ذات المستوى الأعلى فنياً وجمالياً المنطوية ضمن فئة التجريب، ومن ثمَّ فوزه بعد التنافس الشديد ضمن هذه الفئة مع أحد الفيلم الأميركي(To END All SPELLS)، الذي رُشح إلى ل(5) جوائز، وهو يعد من فئة الانتاج الضخم، نسبة لإنتاج فيلم “جميلة”.
كما وتجيء أهمية هذا الفوز، في دخول المشاركين في هذا الفيلم جميعاً، في قاعدة البيانات (IMDB)، التابعة لشركة امازون العالمية، التي أسستها هذه الشركة في عام 1990، وتضم مايزيد عن (10) مليون عنوان، وهذا بحد ذاته انتقال إلى العالمية، بالنسبة لهؤلاء المشاركين.
وأعادت وأكدت صناعة هذا الفيلم، الاعتبار إلى أهمية جغرافية بلادنا، التي تشكل تضاريسها خلفيات مبهرة للمشاهد السينمائية، حيث كانت المنطقة التي تلت المشهد البصري للجدار، في هذا الفيلم موضوع تناولنا، ظهرت وكانها مشهد تقني افتراضي، بينما هي واقعية. والأمثلة كثيرة على فضآت من هذه الجغرافيا؛ فقد كات لأحد المشاهد ضمن فيلم “حرب النجوم” الهولويدي الذي صور عدة مشاهد هامة، في سياق أحداث الفيلم، في إحدى مناطق وادي رم، وغيره من الأفلام العالمية الأخرى، التي صورت في الأردن.
ويذكر أن هذا المهرجان يختلف عن مهرجان كان السينمائي السنوي، إذْ أن كان السينمائي تأسس في عام 1946، يقام سنوياً، في مدينة كان الفرنسية. يوزع المهرجان عدة جوائز أهمها جائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم. وهو من المهرجانات السينمائية الأوروبية الثلاثة الكبرى، مع برلين الدولي في ألمانيا، والبندقية السينمائي.
بينما مهرجان كان العالمي للأفلام القصيرة، أُنشئ إبان فترة (الكورونا)، حيث انتهت آنذاك الحياة العامة التفاعلية الجماعية، كالمهرجانات، فأقيم هذا المهرجان، وفق تقنية (أون لاين) في نفس مدينة كان الفرنسية، وكانت جوائزه شهرية، ولا زالت تقوم لجنة التحكيم بالتعامل مع مختلف الفئات المقدمة للتنافس على جوائزه، بمختلف فئاتها، والتي تشهد اكتظاظاً كبيراً في التنافس شهرياً على جوائزة، إذْ تبلغ عدد الأفلام المشاركة في كل شهر في نحو 2000 فيلم.
ونحن نقول إن العالم سائر في التطور، ويعبر عن احتياجات الإنسان نحو الإختزال، وخاصة في عصر جعلت قواه وتقنياته الإنتاجية الزمن يفر من بين يدين الإنسان، فكان الفيلم القصير، والمسرحية القصيرة اللتين لهما مهرجاناتهما، الشائعتان الآن على مستوى العالم، كتعبير عن نتاج هذا التطور.