عروبة الإخباري – ماجدة داغر –
مجلّة “الحصاد” اللندنيّة
أصبح العيش هنا أشبه بمتاهةٍ مترامية الأبعاد والأطراف. الكثير من الكمائن والفخاخ، تُباغت الباحث عن سلام منشود وسكينة مشتهاة. كلّ من ظنّ أنّ بإمكانه النّجاة، أُقفلت أمام عبوره بوّابات محكمة الإغلاق. كلّ من أعدّ العدّة لاجتياز الحُفر، سقطتْ من روحه المثقوبة مفاتيحُ الأبواب السعيدة، ليغرق مجدّدًا في حياته المرصودة على التّعاسة والافتراض والانتظار، “ويطلّ في وقت غير مناسب على نافذة العالم” كقول الشاعر وديع سعادة.
أصبح العيشُ كابتلاءٍ لا نجاة منه. النّاجون هم وحدهم من قرّروا عدم النّجاة. هم من تراءت لهم الحياة من خلف السّتارة، بلا ملامح ولا شهقات، وبأطرافٍ مبتورة.
مَن يجتازون الوقت بالتّساقط من ساعة الرّمل، مع حُبيباتها المنهمرة كدقائق بليدة. مَن يُنذِرون الحياةَ بالعيش، إذا قُدّر لهم وانتبهتْ. مَن يَسيلون مع الوقت كزئبق العرّافة، وهي تعيدُ تشكيلَ الزّمن. مَن يتوارَون، كَحنظلة، في الغياب. مَن يُديرون ظهورهم لِقطَط الحاويات ومَنسيّي الأرصفة. مَن يغلبون النّوافذ بأنفاسٍ محنّطة. مَن يقلّدون للأرض صوتَ المطر، وللسّماء أشكالَ الغمام. مَن يتوهّمون القفزَ فوق السّواقي، وفوق الضّحكات، وتحت انحناءة روحٍ محطّمة.
النّاجون هم القانعون بما دون النّجوم، وما دون التلاقي مع الوجهة الأخرى للكوكب. النّاجون الغافلون عن دورةٍ ناقصة للأرض، هم وحدهم الماثلون أمام مذبح الديّان.
النّاجون هم “الذين جرفَتهم المياه إلى الوادي/ ارتفعوا غيومًا/ لم يمطروا/ وقفوا فوق، نظروا إلى الأرض/ وتبدَّدوا”، كما رأى أيضًا وديع سعادة.
السّاكتون عن دوار المحيطات، وعن سراب الصّحارى، وعن الهائمين في العاصفة، هم النّاجون.
هم الهاربون من الهَديل، ومن الصّهيل، ومن جمع التّأويل.
النّاجون لا يتعاقبون كالفصول، وكَشراراتٍ ملتهبة. ولا يملأون الماء في السّلال، والنّبيذَ في حُفَر الرّوح العميقة.
هم لا يتنمّرون على قافية خرساء، ولا يترقّبون “أصابع شوبان” على البيانو. مَن لا يرحلون عند خيانةٍ في الشّفق، هم سارقو مفاتيح الأبواب السّعيدة.
سارقو المفاتيح، يستترون بصدأ الأقفال، ولا يتسوّلون النّوم كالغرباء. لا يسلكون دروبًا وعرة، محمّلين بميراثٍ ثقيل من الغضب والضجر.
لا يُضرمون الحرائق في النّفوس الهامدة، ولا يوزّعون الحلوى على لصوص النّار. النّاجون لا يرتفعون مع الصّوت لحظة بحّة الحناجر، ولا يختنقون بكسرة ضوء يابسة. هم لا يستوطنون المآقي الذّابلة، ولا يتبتّلون في الأجفان الحزينة.
سارقو مفاتيح الأبواب السّعيدة، لا يردمون المسافات ذات النّبرة الخافتة، وبؤر المفردات الضئيلة، ولا يرتحلون خلف غلالة عازلة من الصّمت.
هم النّاجون القابعون على عتبات الأبواب السّعيدة، يقيسون المسافة الواهمة بين الدخول المؤجّل ومترادفات الرّحيل.
النّاجون لا يتربّصون بفانتازيا أخماتوفا وهي تردّد: “كلّ الأشياء التي أراها سوف تحيا من بعدي”.