يستحق حادث سقوط مروحية الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الكثير من التفكير والتأمل في ظروفه وملابساته الغامضة والمريبة، والنقاش هنا لا يستهدف البحث عن دلائل وبراهين تدعم الفرضية التي يتبناها النظام الإيراني ـ حتى الآن ـ وهي فرضية الطقس والظروف الجوية الصعبة، ولا الفرضية التي يروج لها بعض المراقبين حول وجود شبهات ما تحوم حول الحادث، فكل ذلك من مهام سلطات التحقيق وأجهزة الاستخبارات الكبرى حول العالم، والتي يهمها التعرف إلى الحقيقة في مثل هذه الحوادث المهمة والمؤثرة.
الحادث بطبيعته يثير التساؤلات، والمسألة هنا لا تتعلق بقدرات المروحية أو تقادمها أو غير ذلك من نقاط تلقي عليها المسؤولية في بعض الأحيان، لأن مخزون إيران من المعدات المتقادمة/ المتهالكة في ازدياد بسبب تأثير العقوبات الدولية، ولكن المسألة هنا ليست ذات صلة وثيقة بهذا لأن هناك امكانية لشراء مروحيات صينية وروسية ومن دول أخرى، فضلاً عن أن الرئيس ومساعديه لم يكن ليجازفوا بركوب طائرة وهم يعلمون مسبقاً أنها معرضة للهلاك في الظروف الجوية التي كان الجميع على علم بها سواء من البيانات الجوية أو خلال رحلة الذهاب.
أكثر مايلفت انتباهي ـ كمراقب ـ في الحادث أن إيران اتجهت فور اختفاء الطائرة إلى تفسير الحادث في إطار الظروف الجوية بشكل يقيني، رغم وصول مروحيتين كانتا ضمن الفوج الجوي الرئاسي الذي شارك في افتتاح سد “قيز قلعة سي” على الحدود الإيرانية ـ الأذربيجانية، وصلت اثنتان منها إلى تبريز، فيما سقطت الثالثة وهي طائرة الرئيس الإيراني، وبدت التصريحات الرسمية جميعها متماهية حول سببية الطقس الجوي، وتبتعد تماماً وقطعياً عن اثارة نظرية المؤامرة أو التشكك في وجود استهداف ما للمروحية الرئاسية، وأكثر ما يلفت الانتباه هنا أن هذا الأمر ليس من طباع النظام الإيراني وقادته، فكل صغيرة وكبيرة تحدث في إيران تلقى فيها المسؤولية دوماً ومن دون تفكير او نقاش على “الأعداء” و”المتربصين” حيث يقصد بذلك غالباً دولة إسرائيل والولايات المتحدة.
غاب “الأعداء” هذه المرة بشكل واضح ومريب عن التفكير السياسي الإيراني، وهو أمر مثير للتساؤلات بحد ذاته، رغم أن الشكوك كانت قد اشتعلت بالخارج، حيث بادرت دولة إسرائيل على الفور إلى نفي صلتها بالحادث، فيما علق نائب رئيس وزراء صربيا ألكسندر فولين، الذي كان يرأس وكالة الأمن والمعلومات على الحادث قائلا إن “زعماء العالم الحر في خطر”، وقال فولين: “ليس لدي أدنى شك في أن أجهزة المخابرات الإيرانية، التي تعد من الأفضل في العالم، ستكتشف ما حدث للرئيس الإيراني، ولكنه من الصعب للغاية بعد محاولة اغتيال رئيس الوزراء السلوفاكي (روبرت) فيتسو واختفاء الرئيس رئيسي التخلص من الانطباع بأن زعماء العالم الحر هم الذين في خطر. في العالم الذي نعيش فيه، الحرية يُعاقب عليها”.
من خلال مقاربة الحادث، نجد أن هناك 3 سيناريوهات أو فرضيات محتملة لوقوعه، أولها الأحوال الجوية والطقس السىء وثانيها أعمال الصيانة وتهالك الطائرة وثالثها وجود مؤامرة أو عمل مدبر. والحقيقة أنه لا يمكن استبعاد السببين الأولين، فهما محتملان بدرجة كبيرة لاسيما أن قطاع النقل الجوي في إيران قد شهد خلال العقد الأخير حوادث عدة، تمثلت في انحراف عدد من الطائرات عن المدرج في أثناء الإقلاع أو الهبوط، وسقوط عدد آخر بعد أن شبت النيران في محركاتها، واصطدام أخرى بقمة سلسلة جبال زاغروس وسط البلاد، إلى جانب الحوادث التي أصابت المروحيات التي تقل المسؤولين الإيرانيين، أما الفرضية الثالثة فلها كذلك موروث إيراني، ولا يمكن استبعادها حتى وإن جاءت نتائج التحقيقات الرسمية على خلاف ذلك.
الفرضية الأساسية الخاصة بعامل الطقس تبدو غريبة ولافتة لأن أحوال الطقس لم تكن مفاجئة لا بالنسبة للأجهزة الأمنية المعنية التي يفترض بها أن تطبق بروتوكولات حماية الرئيس والقادة رفيعي المستوى، ولا بالنسبة للطيار نفسه، وقد كان برتبة عسكرية رفيعة في الجيش الإيراني، فضلاً عن أن الخبراء يرون أن الضباب والغيوم والتضاريس قد لا تؤثر بقوة على مسار مروحية رئيسي لأنها مجهزة للهبوط حتى حال تعطل المحركين معاً، وهو أمر صعب بل إنه في حال تعطل المحركين تعمل الطائرة بطريقة الدوران الذاتي وتستطيع الهبوط بسلام، ويقول خبراء أن الحالة الوحيدة للسقوط المؤكد هي فقدان المروحية لشفرتيها ما يؤدي بها إلى أن تهوي بسرعة كبيرة، حيث لا مجال لنجاة أحد من ركابها وهذا ما حدث تقريباً، وفقدان الشفرتين هنا له أسبابه التقنية، التي تضع بدورها علامات استفهام حول أسبابه وما يمكن أن يكون قد حدث قبل اقلاع المروحية، وحالتها الفنية والتقنية قبل الاقلاع.
التساؤلات كثيرة وتبحث عن ردود غائبة، واعتقد أنها ستبقى كذلك، ولكن الواضح أن النظام الإيراني قد حرص تماماً على تفادي اثارة الشكوك حول الحادث منذ اللحظة الأولى لوقوعه، ربما لخوف من استغلاله في إحداث فوضى داخلية، وربما لعلم مسبق بما سيكون، وكان التركيز على امتصاص آثار الأزمة وتهيئة الرأي العام للخبر تدريجياً والتشديد على سببية الظروف والطقس الجوي وربما البحث لاحقاً عن أسباب الحادث ومعالجته بالشكل الذي يراه النظام مناسباً بعد ترتيب المشهد الداخلي.
أكثر مايغذي نظرية المؤامرة في حادثة سقوط مروحية الرئيس الإيراني أن مؤسسات البلاد مخترقة أمنياً بشكل كبير، وقد عكست أحداث سابقة هذا الاخترق ومستواه العميق، وأبرزها اغتيال العالم النووي ب”روبوت قاتل” قرب طهران، وبالتالي تصبح فرضية اختراق الأجهزة الأمنية الإيرانية بما فيها تلك المعنية بحماية الرئيس نفسه مسألة ليست مستبعدة تماماً، ولكن “هدوء” رد الفعل الإيراني يثير هذه المرة الشكوك حول مؤامرة داخلية من تدبير أجنحة داخل النظام نفسه، خصوصاً أن رئيسي كان أكثر المرشحين المحتملين لخلافة المرشد حظاً، بمعنى أن الامر يتعلق بصراع مناصب وليس صراع سياسات، لأن رئيسي كان يعرف بـ”رجل نعم” وأكثر الرؤساء تنفيذاً والتزاماً بأوامر خامنئي.