عروبة الإخباري –
الدستور –
كان مؤتمرا صحفيا روتينيا حول يوميات حرب دامت عقدين ولعلها مازالت حتى يومنا هذا. تداعيات اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر ومنها حربا أفغانستان والعراق. لكن إجابة وزير الدفاع الأمريكي الراحل دونالد رامسفلد على سؤال صحفي من العيار الاستجوابيّ، ذهبت مثلا على قدرة البعض على الإجابة، بلا إجابة! خلاصة ما قال يومها، إن «ثمة أمور نعلم أنّا نجهلها وأمور نجهل جهلنا لها»! طبعا ضحك الصحفيون يومها من قدرة رامسفيلد على التهرب من إجابة، الكل موقن أنه يعرفها جيدا، ويعرف ما يريد الناس سماعه.
تحررا من أي قيود أو حدود تفرضها بعض المحظورات في بعض الذهنيات التي لا زالت مستحكمة في الميل «المرضيّ» إلى حجب المعلومة -كليا أو جزئيا- أو حظر الرأي والحجر على أصحابه أحيانا، تماما كمن أراد احتباس الماء بين أصابع اليدين أو حبس الهواء بين شفتين أو منخرين، تحررا من كل ما سبق، أسوق مثالين: الأول من القضايا الكبرى، والثاني من القضايا التي يظنها البعض صغرى!
أبدأ بما أراه أولى بالاهتمام، تلك القضايا التي يستسهل البعض انعدام الشفافية فيها، كالأخبار المتعلقة بأمن الإنسان أو صحته أو قُوته (رزقه).
ما الحكمة من افتقاد الخبر لأهم عناصره الخبرية البحتة؟ ما مبرر أن تحجب معلومات في بيان تحدث عن ضبط عقاقير أو ما يسموها مكملات غذائية فاسدة؟ هل من المعقول أن نطلق العنان لخيالنا ولهواجسنا حتى ندخل في مضاربات إشاعات لكل منها أجنداتها، وجميعها تخدم الأجندة الأكثر خطورة، وهي إحداث البلبلة وضرب الأسافين بين المواطن والمسؤول والمؤسسات والشركات، من القطاعين العام والخاص؟ لمصلحة من جرى هذا الحظر غير المبرر للمعلومة؟ وما ضير أن يتم كشف اسم البلد الذي تمت منه عملية استيراد أو تهريب ذلك الدواء الفاسد (الكاذب) وما عرف الناس أنهم قرطوا جِبسا أم قضموا حجرا؟! من حق المريض -خاصة مرضى هشاشة العظام من أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا، من حق الناس كافة، معرفة ذلك، أكثر من السجال السياسي الدائر في أي قضية هنا أو هناك. وما علاقة الحجب الانتقائي للمصدر كأحد عناصر الخبر، بعلاقات الصداقة أو الأخوة أو الجيرة مع تلك البلاد، قريبة كانت أم بعيدة، ما دامت جريمة الدواء المزيف قد تمت قطعا دون علم حكومة ذلك البلد ولا تقع في ذلك الوازرة إلا على المجرمين الخارجين على القانون الذي من حقنا معرفة أسمائهم الرباعية. أولسنا مؤمنين بقاعدة روحية قبل أن تكون أخلاقية أو قانونية ألا وهي: «لا تزر وازرة وزر أخرى»..
أما في القضايا الكبرى التي يكرس لها تسعة وتسعون بالمئة أحيانا من نشرات وبرامج الفضائيات والمنصات، فلِمَ الإصرار على حجب رواية الطرف الآخر في أي قصة إخبارية كانت؟ عرض تلك الرواية لا يعني قبولها إطلاقا. زد على ذلك معضلة المصطلحات، وكأن بعض القنوات في مزاد، تضارب على بعضها بعضا، في الشحن العاطفي الذي لا يولد إلا هياجا غير راشد وأحيانا غير عاقل، من خلال اختيار مصطلحات وتوصيفات تصنف الناس والأفعال وكأنه يوم الحساب وهم الديّانون فيه! من حق الناس تناول الخبز ساخنا كصورة من صور الأخبار الطازجة على أن يكون الخبر كما الخبز بلا محسنات وهرمونات، ومن باب أولى بعيدا عن الهندسة الوراثية والتعديل الجينيّ في عناصر الخبر العضوية!
قطعا ثمة قارئ أو راصد سيستحوذ على اهتمامه وطاقته اسم رامسفلد فقط، ويبدأ التداعي الحر والتخاطر عن بعد وينقلب الأمر في بعض التعليقات إلى سوق عكاظ من التنابز بالألقاب وكأننا عشية 2003 أو غداة حرب إسقاط نظام صدام أو سقوط بغداد. بصرف النظر عن تلك الحرب، والحرب الدائرة الآن لنصف عام في غزة، فإن كثيرا من مآسينا تبدأ بإدراك ما نجهل وبالإصرار على المعرفة الخالصة لوجه الحق، وهو اسم من أسماء الله الحسنى والعظمى سبحانه. الحق أولى أن يتّبع وقد عرفنا الناس كأردن وكأردنيين بأننا لا نخشى في الحق لومة لائم، فلم التحرّج من سرد القصة الإخبارية كما هي، أقله الخبر، خاصة الخبر الذي يعني صحة الإنسان، أغلى ما نملك..