عروبة الإخباري –
ايناس شرّي – المفكرة القانونية
لم يخطرْ في بال معلّمة اللغة الفرنسيّة في مدرسة “المركزيّة” – جونيه التابعة للرهبانية المارونية أنّ استخدامها لمستند اختارته عن الإنترنت يوسّع مفهوم العائلة مراعاةً لطفل يتيم في صفّها، سيحوّلها إلى “تهديد للعائلة” ومحفّزة “على الشذوذ الجنسي السائد مؤخرًا” ما يستوجّب بالتالي وقوفها أمام القضاء من جهة، والتشهير بها وبالمدرسة من جهة أخرى. قد يكون “حظّ هذه المعلّمة السيّئ” على حدّ تعبير بعض أولياء الأمور قادها إلى اختيار مستند عن التنوّع الجندريّ لاستخدامه بهدف عدم استبعاد الأيتام من درس العائلة. وقد يكون حظّها السيّئ أيضًا ساهم في “إيصال المستند إلى وسائل التواصل الاجتماعي حيث التحريض والتشهير سهل”، بحسب وليّ الأمر نفسه. ولكن ما هو مؤكّد أنّ حملات التجييش التي عمّت الإعلام الاجتماعي حول موضوع يعتبر تابوهًا اجتماعيًا غذّت الرهاب منه سياسات وممارسات السلطة وأذرعِها، أعطت الضوء الأخضر للناس لجلد المعلّمة والمدرَسة. ودفعتْ تلك الحملات الرهبانيّة المارونية إلى اتخاذ قرار وقف المعلّمة ومنسّقة اللغة الفرنسية (التي تشرف على عمل المعلّمات) شهرًا عن التعليم رغم الإقرار بأنّهما ارتكبتا خطأ غير متعمّد، وحرّكت حتى القضاء على الرغم من أنّ أولياء الأمور في المدرسة ولجنة الأهل تضامنوا مع المعلّمة و”غفروا” لها خطأها غير المقصود مقدّمين طلب استرحام يطالبون فيه بعدم فصل المعلّمة.
وبعدما وضعت القاضية المنفردة في بعبدا الناظرة في قضايا الأحداث في جبل لبنان جويل أبي حيدر يدها على الملف عملا بقانون حماية الأحداث، استمعت أمس الجمعة إلى مدير المدرسة وأربع مدرّسات والمنسّقة، على أن تصدر قرارًا الأسبوع المقبل سواء بإقفال الملف أو اتخاذ تدابير حمائية فيه. وتزامنًا مع جلسة الاستماع اعتصم عدد من أولياء الأمور أمام قصر عدل بعبدا للتضامن مع المعلّمة ولاسيّما أنّ ما فعلته كان “بنيّة صافية”، على حد تعبيرهم.
صحيح أنّ المعلّمة لم تقصد مناقشة التنوّع الجندري، وصحيح أنّ تضامن أولياء الأمور معها كان لأنّها لم تقصد ذلك، إلّا أنّ الحادثة نفسها تستوجب فتح النقاش حول تعامل المدارس والهيئات التربويّة بأكملها مع هذا الموضوع كما ترى الدكتورة سوزان أبو رجيلي أستاذة كليّة التربية والمختصّة في علم الاجتماع التربوي، “ففي عالم يغرق بمحيط من المعلومات متاحة للطفل حتى في مرحلة ما قبل المراهقة، تجعله عارفًا ماذا يحصل عالميًا في ما يتعلّق بمفهوم العائلة وتغيّره، لا يمكن أن نتصرّف وكأن الطفل لا يعرف شيئًا”. ويُحتّم “على الهيئات التربويّة مناقشة موضوع التنوّع الجندري من منطلق ثقافتنا وخصوصيّة مجتمعنا، بدلًا من تراشق المسؤوليات عند كلّ حادثة”.
خطأ غير مقصود وجنون وسائل التواصل الاجتماعي
وفي تفاصيل الحادثة كما كرّر لـ “المفكرة” أكثر من مصدر معني ومتابع أنّه خلال شرح درس العائلة للصف الثاني ابتدائي وحقله المعجمي، في تمرين العمل التطبيقي (Travaux pratiques) لاحظت المعلّمة انزعاج أحد الأطفال وهو يتيم الأمّ يعيش مع أبيه وأخيه، فقرّرت أن توسّع مفهوم العائلة وتُعطي صورة عن أشكال أخرى للعائلة لأشخاص يتامى أو ذويهم منفصلون. بحثت المعلمة عن مستند يشرح هذه الصورة الموسّعة على الإنترنت فوجدت صورة تتضمّن أشكالًا مختلفة من العائلات، وقدّمت الأمر للأطفال من دون أي ربط بالمثلية.
في اليوم نفسه اعترض أحد أولياء الأمور على الصورة وأرسلها على إحدى مجموعات الواتساب الخاصة بالمدرسة، فبادر عدد من الأهالي إلى الاستفسار من المدرسة عن الأمر. وعليه، أصدرت هذه الأخيرة بيانا نشرته على موقعها الإلكتروني مفاده أنّه “بعد الاطّلاع على المُستند الموزّع” وضعت “إدارة المدرسة يدها على الموضوع بكل تفاصيله وتقوم بإجراء التحقيق اللازم تمهيدًا لإصدار بيان توضيحيّ”. “بالنسبة للمدرسة وأولياء الأمور أي الجهتين المعنيتين مباشرة، كان الموضوع انتهى عند هذا الحدّ” يقول أحد أولياء الأمور الذين اعتصموا تضامنًا مع المعلّمة، مُعتبرًا في حديث مع “المفكّرة القانونيّة” أنّ تسريب المستند إلى وسائل التواصل الاجتماعي ووضعه في إطار بعيد عن النيّة الأساسية وراء استخدامه وتحديدًا في إطار تعليم الأبناء قيمًا تهدّد العائلة المسيحيّة، أثار حملة هجوم على المدرسة والمدرّسة والمنسّقة، الأمر الذي استتبع بدوره تدخّلًا من أمانة السر العامة للرهبانية اللبنانية المارونية ومن القضاء.
وفي هذا السياق يقول أحد أولياء الأمور الذين وصل المستند إلى ابنه إنّ المدرسة استقبلت استفسارات الأهل وشرحت سوء الفهم الحاصل، كما أنّ ابنه أخبره أنّ المعلّمة تحدّثت من خلال المستند عن أطفال يتامى، وعن أطفال يعيشون مع جدّ وجدّة أو مع عمّ أو خالة، الأمر الذي يُبعد أيّ “شبهة” عن المعلّمة، بحسب تعبيره. ويضيف: “تأكّدنا أنّ الخطأ غير مقصود، واعتقدنا أنّ الأمر انتهى إلى أنّ تفاجأنا بانتشار الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي التي علّقت مشانق للمعلمة واستُتبعت بتدخل من القضاء لم نكن نحن نُطالب به أصلًا”.
مواقف أولياء الأمور الداعمة كانت أيضًا واضحة في بيان لجنة الأهل في المدرسة، والتي شجبت الحملة التي شنّت على المدرّسة، متمنّية لو أنّ “المهاجمين انتظروا التحقيقات التي تجريها المدرسة في هذا الإطار”.
وشرحت لجنة الأهل في بيانها أنّ المدرسة وضعت يدها على الملف مع طلب بإبطال العمل بورقة “العمل التطبيقي” (Travaux pratiques) موضوع الإشكال واعتبارها غير موجودة وفتح تحقيق إداري تبيانًا للمسؤوليات، وأنّ أسرة المدرسة المركزية ابنة الرهبانيّة اللبنانية المارونية تلتزم بالمبادئ والأخلاق المسيحيّة الكاثوليكية”.
الرهبانيّة “تخضع” للضغوط “الهوموفوبيّة” والقضاء يتحرّك
يعتبر أولياء الأمور الذين تواصلت معهم “المفكّرة” أنّ ردّة الفعل على المعلّمة كان مبالغا فيها، رافضين بمعظمهم أن يتم استجواب معلّمة أمام القضاء بناء على محاكمات قام بها روّاد وسائل تواصل اجتماعي، كما رفض عدد منهم أن تخضع الرهبانيّة إلى الضغوطات خوفًا من أن تُتّهم “بالترويج للمثليّة”.
وكانت أمانة السر العامة للرهبانية اللبنانية المارونية أصدرت بيانًا بعدما أثار الموضوع ضجّة على وسائل التواصل أعلنت فيه “فصل المعلّمة والمنسّقة شهرًا كاملًا لأنّ عملهما، ولو كان غير متعمّد، ينمّ عن إهمال وظيفي أدى إلى الإساءة إلى صورة المدرسة المركزية”.
وتحدّثت الرهبانيّة عن “السباب والتجنّي والشتائم على مواقع التواصل الاجتماعي” ممّن “كتبوا ضدّ المدرسة المركزية، أو ضدّ الرهبان، أو ضدّ الرهبانية، أو ضدّ الكنيسة”، متمنّية “حذف ما كتبوه، وإلّا وجدت نفسها مضطرّة إلى إحالتهم إلى القضاء المختصّ”.
وفيما أكّدت الرهبانية في بيانها أنّها ترفض “نظرية الجندر وتتمسّك بالقيم الكاثوليكية حول العائلة، أوضحت أنّ المعلّمة “أخذت المستند من الإنترنت بهدف معالجة موضوع اليتم” وأنّها ليست “ملمّة بموضوع الجندر”. واعتبرت الرهبانيّة أنّ المعلّمة والمنسّقة “أخطأتا، ولكنه خطأ غير متعمّد، خصوصًا لما يُعرف عنهما من التزام مسيحي وأخلاقي كبير”.
قرار الرهبانيّة رفضه عدد من أولياء الأمور معتبرين أنّه جاء في “إطار استيعاب غضب رواد على وسائل التواصل الاجتماعي” وفي إطار “تأكيد ما لا حاجة لتأكيده أي أنّ الكنيسة ترفض نظرية الجندرة” على حدّ تعبير أحد هؤلاء.
وكان الأهالي اعتصموا في حرم المدرسة بعد قرار فصل المعلّمة والمنسّقة وقدّموا طلب استرحام لهما مطالبين بعدم إيقافهما عن التعليم شهرًا. وأوضح أحد أولياء الأمور أنّ المدرسة تدرس طلب الاسترحام وأنّها تنتظر القرار القضائي للبتّ فيه.
بالتزامن مع قرار الرهبانيّة، تحرّكت القاضية المنفردة الجزائيّة الناظرة في قضايا الأحداث جويل أبو حيدر عملًا بالمادة 26 من القانون 422/2002، التي تُخول القاضي “أن يتّخذ لصالح الحدث المذكور تدابير الحماية أو الحرية المراقبة أو الإصلاح عند الاقتضاء” علما أن القاضي يكون في هذه الحالة مخولا التدخّل تلقائيًا في الحالات التي تستدعي العجلة.
واستمعت أبو حيدر اليوم إلى مدير المدرسة و4 معلّمات ومنسّقة، معتبرةً أنّه “بعد الاطّلاع على الصورة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي” و”حيث أنّ ذلك يندرج في إطار التحفيز على الشذوذ الجنسي السائد مؤخرًا، والمخالف للقيم الأخلاقيّة التربويّة وأحكام الطبيعة بذاتها”. وبالتزامن مع جلسة الاستماع تجمّع عدد من أولياء الأمور أمام قصر عدل بعبدا متضامنين مع المعلّمة.
وليس بعيدًا، كان وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال عباس الحلبي كلّف المدير العام للتربية عماد الأشقر متابعة القضية. ودعا الحلبي “الحرصاء على التربية إلى عدم إطلاق التهم في أي قضية، قبل الحصول على المعلومات الحقيقية من مصادرها” ولاسيّما أنّ “القضاء تحرّك عبر محكمة الأحداث” وأنّ “وزارة التربية تنتظر قرار القضاء”. كما أنّ المدرسة أصدرت بيانًا بعد تحقيق تربوي إداري.
الموضوع بحاجة إلى حوار تربوي
صحيح أنّ المعلّمة لم تقصد مناقشة التنوّع الجندري، وصحيح أيضًا أنّ أولياء الأمور تضامنوا معها لأنّها لم تقصد ذلك، ولكنّ الحادثة نفسها تستوجب فتح النقاش عن موضوع تعامل المدارس والهيئة التربويّة بأكملها مع هذا الموضوع كما ترى الدكتورة سوزان أبو رجيلي أستاذة كليّة التربية والمختصّة في علم الاجتماع التربوي. “ففي عالم يغرق في محيط من المعلومات متاحة للطفل حتى في مرحلة ما قبل المراهقة، تجعله عارفًا ماذا يحصل عالميًا في ما يتعلّق بمفهوم العائلة وتغيّره، لا يمكن أن نتصرّف وكأنّ الطفل لا يعرف شيئًا”، بحسب أبو رجيلي.
وتُضيف في حديث مع “المفكرة” أنّ العقل التربوي في لبنان لا يزال يتصرّف وكأنّ المعلّم هو المصدر الوحيد للمعلومة وكأنّنا نحن فقط من يسيطر على وصوله إلى المعرفة، وكأنّه مفصول عن الواقع، مشيرة إلى أنّ موضوع التوّع الجندري مطروح بقوّة ومن هنا فإنّ عدم مناقشته في المدارس لا يعني أنّنا نحمي أولادنا “فهل حماية الطفل تكون بعدم إيصال المعلومة أو تكون بإيصالها ومناقشتها ولو من منطلق ثقافتنا وعاداتنا ومن منطلق القيم الإنسانيّة؟”
وترى أبو رجيلي أنّه بدلًا من تبادل الاتّهامات في كلّ مرةّ يحصل فيها أيّ موقف يتعلّق بالتربية الجندريّة علينا أن نفتح حوارًا حول ماذا يحصل في العالم، ونناقش آراءنا، نسمع ونستمع لنتوصّل إلى موقف تربوي واضح مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة مجتمعاتنا.
وفي الإطار نفسه يقول أحد أولياء الأمور أنّه متأكّد من أنّ المعلّمة لم تستخدم المستند عن قصد، ولكن حتى لو استخدمته فعلًا بقصد شرح التنوّع الجندري من باب التوعية، فالأمر لا يتطلّب محاسبتها فـ “المثليون موجودون، والبابا دعانا إلى تقبّلهم. وأن ندعو أولادنا إلى تقبّل الآخر من دون الترويج هو فعل راقٍ، لا نستطيع الاختباء وراء إصبعنا، والوعي مطلوب، وإذا أردنا أن نوعّي على شيء فعلينا أن نتحدّث عنه”.
كلام أبو رجيلي وولي الأمر هذا ربما يُعيدنا إلى جملة بالغة الأهمية وردت في بيان الرهبانيّة حين أشارت إلى أنّ المعلّمة “أكّدت أنّها ليست ملمّة بموضوع الجندر”، وكأنّ إلمامها بذلك خطيئة وكأنّ عزلة الأساتذة ومعهم المناهج التربوية عن مواضيع بهذه الأهمية، مطلوب، وبالتالي عزلة التلامذة. من جهة أخرى تمنّت أبو رجيلي لو أنّ المدارس والقضاء تهتمّ بأوضاع الأساتذة المهنيّة ومهاراتهم التعليميّة، إذ إنّ التحرّك في الأمور التربويّة غالبًا ما يكون في إطار محاربة الأستاذ والذي بات متروكًا وحده، مشيرة إلى ضرورة الإصغاء إلى الأستاذ قبل إنزال الحكم عليه، واضعة الهجوم الذي تعرّضت له المعلّمة في إطار العنف الاجتماعي الذي يعبّر عن كمّية غضب لدى الأفراد الذين يفرغونها، ما أتاحت لهم الفرصة، بالحلقة الأضعف وهنا الأستاذ هو الحلقة الأضعف.