عروبة الإخباري –
اندبندنت عربية – نيرمين علي
أصبحت مواضيع الذكاء الاصطناعي اليوم الحديث الغالب على معظم المجالس، لكن الحقيقة أن للذكاء الاصطناعي صولات وجولات قديمة في حياة البشر، والفارق أنه وصل اليوم إلى مرحلة يستطيع فيها حرفياً كل شخص لديه جهاز كمبيوتر أن يسهم في تدريبه وبرمجته والاستفادة منه مباشرة، في حين اقتصرت الاستفادة سابقاً في الأطر غير المباشرة. فكانت هناك فئة قليلة تبتكر وتبرمج وتدمج البرمجيات، وأغلبية ساحقة تتلقف المنتجات والخدمات المبرمجة بوعي أو من دون وعي. لكن ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي بقدراته الخارقة على المحاكاة البشرية وأداء المهمات التي تتطلب عادة ذكاء بشرياً، دفعت بالمناقشات إلى المجال العام حاملة للمرة الأولى مفاهيم مثل التعلم العميق والبرمجة اللغوية العصبية والشبكات العصبية إلى المحادثات اليومية. إذ يتحدث عنه العامة اليوم تماماً كما أصحاب الاختصاص، فنجد فئة تطرح المشكلات التي سيخلفها عندما يدخل بشكل رسمي إلى القطاعات الصناعية والتجارية والمنازل والمدارس والجامعات وغيرها، محذرة من نتائج فرضه كبديل للإنسان. بينما تتحدث فئة أخرى عن تأثيره الإيجابي في مجال الطب والصناعات والعلوم المختلفة، وفي كلتا الحالتين نجد تعظيماً للآلة بمعزل عن صانعها، متناسين الجندي المجهول الحقيقي وراء كل هذه العظمة.
الدور البشري
الحقيقة أن للبشر دوراً أساسياً ومستمراً في هذا الابتكار، ليس فقط لمن ابتكر أساسيات هذا المجال ومن لحق به من مطورين حتى وصلنا إلى النسخة الحالية المتطورة من الذكاء الاصطناعي، بل إن كل إنسان يقوم اليوم بدور في تدريب نماذجه، ويسهم في تطويره وتحسينه وتعزيز خبراته وإكسابه مزيداً من الاحتمالات الصحيحة في مقابل الاحتمالات الخاطئة.
يقوم البشر اليوم بدور عظيم في تعليم هذه النماذج سواء علموا أم لم يعلموا ذلك، فالمستخدمون الذين يدخلون إلى “تشات جي بي تي” مثلاً، لكي يختبرونه، هم لا يدرون أنه هو الذي يختبر نفسه معهم، ويختبر تجربته الصناعية (أو الاصطناعية) في مقابل ما يتلقفه من هذه التجربة البشرية الغنية المرنة.
والأنظمة البرمجية لتحليل البيانات والتعلم من التجارب واتخاذ قرارات ذكية، تعتمد بالأساس على الاسترشاد بالمدخلات البشرية. وفي معظم مشاريع الذكاء الاصطناعي، يقف البشر المتخصصون وراء الكواليس، مقدمين قدراً كبيراً من الوقت والجهد في اختيار وجمع الأنواع المناسبة من البيانات وتصنيفها بشكل مناسب، وكأننا نتحدث عن طفل ذكي يتعلم بالملاحظة والتقليد، لكنه يحتاج بشكل دائم إلى دعم ومراقبة والديه والاسترشاد بهما، حتى يقدم الأداء الجيد أولاً ولكي لا يخرج عن السيطرة ثانياً.
حلقة التعلم الآلي
ولكن إذا أردنا التحدث بشكل علمي وأكثر تخصصاً، علينا المرور بمصطلح أتش آي تي أل HITL)) وهو اختصار لمفهوم (Human-in-the-loop) الإنسان في حلقة التعليم الآلي أو الإنسان في حلقة صنع القرار، الذي يعطي صورة واضحة عن الدور البشري الحقيقي الكامن خلف النماذج اللغوية كمشارك أساس في عملية إكساب الآلة كل هذه الهالة من الذكاء.
و”أتش آي تي أل” عبارة عن حلقة متابعة وإشراف وتحسين مستمرة للوصول بالآلة إلى أفضل نسخة من الذكاء (إن صح التعبير) أو القرارات الذكية والأكثر دقة، وهي مزيج من التعلم الآلي الخاضع للإشراف والتعلم النشط، تكمن مشاركة البشر في مرحلتي التدريب والاختبار لبناء الخوارزمية، مما يخلق حلقة (تغذية راجعة) مستمرة تسمح للخوارزمية بإنتاج نتائج أفضل في كل مرة.
وفي هذه العملية، يتجلى الدور البشري في ثلاث مراحل مهمة، أولها التعليق التوضيحي على البيانات، إذ يقوم معلقو البيانات (البشريون) بوصف بيانات التدريب الأصلية وتسميتها، التي تتضمن بيانات الإدخال وتوقع المخرجات المقابلة لها. وثانياً يقومون بإدخال البيانات المصنفة بشكل صحيح لتدريب الخوارزمية، إذ يمكن للخوارزمية، استناداً إلى هذه البيانات، الكشف عن الرؤى والأنماط والعلاقات داخل مجموعة البيانات لتصبح الخوارزمية قادرة في النهاية على اتخاذ قرارات دقيقة عند تقديم بيانات جديدة في فترة لاحقة. وأخيراً مرحلة الاختبار والتقييم، وفيها يكمن دور الإنسان في تصحيح أية نتائج غير دقيقة تنتجها الآلة أو عندما تكون واثقة بشكل مفرط من نتيجة خاطئة، وهذا ما يعرف بـ”التعلم النشط”، والهدف من هذه المرحلة تدريب الآلة بشكل أكبر على اتخاذ قرارات أفضل حتى تتمكن في المرة المقبلة من الوصول إلى نتيجة صحيحة من دون تدخل بشري، وبهذا تتشكل حلقة تغذية مستمرة بين الإنسان والآلة.
ولهذه العلاقة المتناغمة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي فوائد عدة، أهمها أنه مع استمرار البشر في ضبط استجابات النموذج تصبح الخوارزمية مع الوقت أكثر دقة واتساقاً، مستفيدة من القدرة البشرية العالية على تفسير أشياء مثل السياق والنص متعدد اللغات والأخذ في الاعتبار الفروق الثقافية والإقليمية والاجتماعية والسياسية الدقيقة.
كما يسهم وجود الإنسان في هذه الحلقة في تعزيز عملية جمع البيانات، التي تعد مطلب النماذج الأول، إذ يقيم نجاح النموذج على أساس حجم البيانات ودقتها، والإسهام الأهم هو كشف التحيز وتصحيحه مبكراً.
أحد سيحل مكانك
وفي حين تظهر تجليات الذكاء الاصطناعي المختلفة كأداة متطورة لتسريع وتسهيل عمل البشر والوصول الى أعلى درجة أداء ممكن، وبالتالي اختصار الوقت والجهد وتسريع عجلة الإنتاج على المستوى الجماعي والفردي، نجد المخاوف مستمرة في التصاعد، والأهم أن أغلبها ينبع من القلق على المهن أو بكلمة أدق على “مصدر العيش”.
والحقيقة أن أدوات الذكاء الاصطناعي وسيلة لا تقدر بثمن عند الحاجة إلى فهم البيانات وحل بعض المشكلات المعقدة واتخاذ القرارات في المهمات الروتينية، التي يصل فيها الإنسان إلى مرحلة من الخبرة يصبح فيها هذا النوع من المهمات مجرد استهلاك للوقت والجهد من دون أية زيادة في الخبرة والمعرفة، فيفوض الإنسان مهماته إلى هذه الأدوات حيناً، ويوكله بها في أحيان أخرى شرط الوعي بها.
وهنا نفرق بين التفويض والتوكيل مستعينين بشرح مبسط لإيهاب فكري، الباحث في علوم الإدارة، فالتفويض يعني تكليف الطرف الأول لطرف آخر بمهمات خاصة به وهو يتقنها أصلاً، بغرض تدريب الأخير وتطوير مهاراته وخبرته أو بهدف استثمار وقت الأول في مهمة أخرى أعلى نفعاً، بينما التوكيل يختص بمهمة لا يتقنها الطرف الأول أصلاً. وتؤكد علوم الإدارة أن في التوكيل ضعف وخسارة للمكانة، بينما في التفويض قوة وتعزيز للمكانة وقوة للمفوض والمفوض، هذا على المستوى البشري.
ومن هنا الأكيد أن الإنسان في حال اتكل على الأدوات الآلية بشكل كلي سيخسر مع الوقت أدواته وقدراته الطبيعية، بينما سيقوي التفويض كلاً من الطرفين في عملية مستمرة من التطور. ففي حين تمنعنا بعض القيود البشرية من تسريع مهماتنا بأنفسنا، نستعين بآلات مبرمجة لكي تقوم بها بينما نقوم نحن بمهمة أخرى وكأننا نضاعف قدراتنا بإنجاز مهمتين في الوقت ذاته. لكن الأكيد أن من سيفوض الذكاء الاصطناعي ويجلس مستريحاً سيخسر عمراً وليس عملاً ووقتاً فقط، في حين ستتطور الآلة أكثر من خلال التمرين والتجربة، وربما يختصر التمعن في مقولة إن “الذكاء الاصطناعي لن يحل مكانك، بل الأشخاص الذين يستثمرونه سيتكفلون بذلك”، كثير من الشرح.