مستقبل الهجوم الإسرائيلي على غزة …عناصر محددة (٢ / ٣) الولايات المتحدة* د. سنية الحسيني

عروبة الإخباري –

 

لا يمكن إنكار الدور الجوهري والحساس للولايات المتحدة في استمرار إسرائيل بهجومها الدموي المدمر على غزة. تمتلك الولايات المتحدة سلطة خطيرة على إسرائيل لا تمتلكها أية دولة أخرى في العالم، تتمثل في الدعم النوعي والاستثنائي والمفتوح لها، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. وقد أثبت هجوم الاحتلال الحالي على غزة ذلك الدعم الأميركي لإسرائيل بالدليل القاطع، والذي جعلها تضع نفسها شريكاً لإسرائيل في هذه الهجمة، غير آبهة بالنتائج المتربة على ذلك، سواء كان ذلك على المستوى الإقليمي العربي والإسلامي الشعبي، أو كان ذلك على الصعيد الداخلي الأميركي، ومدى تأثير ذلك على نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة.

 

وتلعب الولايات المتحدة دوراً آخر في هذا الهجوم، لا يقل أهمية عن الأول، ويتمثل في تحشيد دعم الحلفاء الغربيين لإسرائيل في هذا الهجوم، والذي يجعل دولاً غربية عظمى، متغافلة عن الجرائم التي تقترف في غزة، ومتوافقة فعلياً مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وإن كان بعضها بشكل ضمني لأسباب داخلية شعبية. ويبرز دور الولايات المتحدة الخطير أيضاً في هذا الهجوم في تحييد الدور العربي الرسمي في التصدي لإسرائيل، في ظل علاقات التحالف القوية، بين الولايات المتحدة وتلك الدول، التي تتراوح بين الدعم الاقتصادي، والسياسي، والعسكري الأمني. فانحصر الدور العربي الرسمي، أمام الجرائم في غزة على مدار حوالي أربعة أشهر، على التصريحات السياسية والخطابات العاطفية، دون تدخل عربي رسمي عقابي رادع لإسرائيل.

 

رغم تصاعد الخلافات، والتي كان من الصعب إخفاؤها، بين الإدارة الأميركية وحكومة الحرب الإسرائيلية خلال هجوم الإحتلال الحالي على غزة، حول قضايا تتعلق بطبيعة الهجوم وحدوده ومستقبله، إلا أن حقيقة العلاقة العميقة والصلبة بين البلدين منعت الولايات المتحدة من ممارسة أي ضغط حقيقي على إسرائيل لوقف الهجوم على غزة. يأتي ذلك على الرغم من الأضرار التي تلحق بادارة الرئيس بايدن الحالية على المستوى الإقليمي المحيط. ليبقى القرار الفصل في تطورات الهجوم الإسرائيلي على غزة بيد نتنياهو وحكومته.

 

وعلى الرغم من تصاعد الأصوات الشعبية في الولايات المتحدة المطالبة بإنهاء هجوم جيش الإحتلال على غزة، وبشكل غير مسبوق، كما تبور ذلك الموقف في أروقة صنع القرار التنفيذية والتشريعية الأميركية، جاء الموقف الرسمي حاسماً، ليعكس واقع الدولة العميقة، الأسيرة لسطوة الصهيونية المسيحية الداعمة لإسرائيل، دون قيود أو حدود. فلم تتوان الإدارة الأميركية عن قمع الأصوات المعارضة لهجوم إسرائيل أو المؤيدة للفلسطينيين، في تناقض محرج لدولة تتدعي قيامها على أسس الديمقراطية وحرية التعبير ومبادئ حقوق الإنسان. ولا يبدو الأمر سيكون مختلفاً في حال قدوم ترامب إلى سدة الحكم نهاية العام الجاري، لأن التزام الولايات المتحدة تجاه إسرائيل قضية يتفق عليها صانعو القرار في الحزبين.

 

لعقود، تمتعت إسرائيل بدعم أميركي قوي من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وحسب تقرير نشره الكونجرس، إستفادت إسرائيل من دعم مالي أميركي بقيمة ٢٦٥ مليار دولار منذ قيامها، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي حصلت على مثل هذا القدر من المساعدات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتعد إسرائيل المستفيد الرئيس من المساعدات العسكرية الأميركية، في إطار برنامج التمويل العسكري الأجنبي، حيث تلقت أكثر من ١٣٠ مليار دولار منذ العام ١٩٤٨. وفي العقود الأخيرة، ارتفع حجم المساعدات الأميركية لاسرائيل، حيث وقع البلدان مذكرة تفاهم في العام ٢٠١٦، لمدة  ١٠ سنوات، بمساعدة سنوية تبلغ ٨١٥ مليون دولار، يسمح من خلالها لإسرائيل، بشكل حصري، باستخدام ريعها، في شراء منتجات وخدمات إسرائيلية.

 

طوال حياته السياسية، لم يخف بايدن دعمه الثابت لإسرائيل، فيعرف نفسه صهيونيًا. ومثل أسلافه، يعتقد أن المصالح الأميركية تكمن في بقاء ووجود إسرائيل كدولة يهودية. منذ السابع من أكتوبر، تضامن بايدن بثبات مع إسرائيل، رغم الخلافات التي كانت تظهر على السطح بين الفينة والأخرى، حول تفاصيل الهجوم ومستقبله. وأقر مجلس النواب ومجلس الشيوخ تشريعاً من الحزبين يدعم إسرائيل ويدين حماس. بعد وقت قصير من بدء الحرب في قطاع غزة، طلبت الإدارة الأمريكية من الكونجرس الموافقة على مبلغ غير مسبوق قدره ١٤ مليار دولار كمساعدات عسكرية تكميلية لإسرائيل.

 

لم يوافق الكونجرس على ذلك، بسبب ربط بايدن تلك المساعدات بأخرى غير إسرائيل، رغم دعم الحزبين المساعدات لإسرائيل. ورغم غياب القانون الذي يمنح إسرائيل التمويل الإضافي، أبلغت إدارة بايدن الكونجرس في أوائل كانون أول الماضي بيعها ذخائر دبابات لإسرائيل بقيمة ١٠٦ مليون دولار. وفي نهاية الشهر الماضي، أعلن بلينكن عن بيع قذائف مدفعية ومعدات أخرى لإسرائيل بمبلغ ١٤٧ مليون دولار، وهو ما يحق له القيام به دون العودة للكونغرس. وهي المرة الثانية التي تتم فيها الموافقة على مساعدات لإسرائيل بهذه الطريقة، خلال ثلاثة أشهر الحرب، لحقها صفقة ثالثة مؤخرا.

 

استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد أي مشروع قرار في مجلس الأمن دعا لوقف إطلاق النار، وكانت من بين الدول العشر التي صوتت ضد قرار الجمعية العامة الذي يطالب بوقف أطلاق النار، وأيدته باقي دول العالم. ولا يزال البيت الأبيض يرفض الدعوة إلى وقف دائم للقتال، ويصر على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس. وتضمنت جولة بلينكن الرابعة له في المنطقة منذ بدء الهجوم، في النصف الأول من الشهر الماضي، التركيز على ربط حل الدولتين بالتطبيع مع السعودية، وهي المرة الأولى التي يجري فيها ذلك الربط صراحة. ويعتبر حل الدولتين المخدر الذي تستخدمه أمريكا للتأثير عاطفياً على الفلسطينيين، إلا أن ذلك المخدر يختفي أثره بعد ذلك.

 

ويظل تأييد إدارة بايدن لإسرائيل والأغلبية في الكونجرس نواب وشيوخ ديمقراطيين وجمهوريين متجذراً. ورغم تعاطف الديمقراطيون عموما بشكل أكبر مع الفلسطينيين مقارنة بالجمهوريين، فيؤيد ٥٠ في المائة من الديمقراطيين موقف بايدن الداعم لإسرائيل حالياً، في حين لا يتوافق معه ٤٦ في المائة منهم. وتأثر تأييد الجمهوريين كذلك لإسرائيل مؤخراً، فانخفض ذلك الدعم بنسبة ١٠ في المائة، وذلك من ٧١ في المائة إلى ٦١ في المائة. وعلى الرغم من أن قضايا السياسة الخارجية لا تؤثر كثيرا على توجهات الناخبين في الولايات المتحدة، إلا أن عملية طوفان الأقصى دفعت بقضية علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل إلى صدارة الحملة الانتخابية.

 

رغم توجيه دونالد ترامب، الرئيس الأميركي السابق، انتقادات لإسرائيل ونتنياهو بسبب الهجوم على غزة، إلا انه تراجع بعد ذلك. ويعتبر ترامب أن نتانياهو خذله باعترافه السريع بفوز بايدن، وبعدم المشاركة في عملية اغتيال قاسم سليماني. أكد ترامب لاحقا، أنه يقف مع إسرائيل، مشدداً على أنه أفضل صديق لها، ومذكرا بمواقفه خلال عهد ادارته، ومؤكداً على مواصلة دعمها. وهاجم المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين في الولايات المتحدة، وأكد نيته تجميد دخول اللاجئين لبلاده، بمن فيهم الغزيون، وكل من يدعم حركة حماس. إن هزيمة بايدن في الانتخابات القادمة وقدوم ترامب لن يغير من واقع علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل، حتى وإن ظهرت خلافات بين قيادات البلدين، كم حصل من قبل، لأن الالتزام الأميركي بإسرائيل عميق عمق المصالح بينهما والايمان بدورها في المنطقة.

 

أكد مايك بنس نائب الرئيس السابق بأنه لا ينبغي للقادة في هذا البلد ارسال أي رسالة سوى وقوف أمريكا إلى جانب إسرائيل. إن الدولة العميقة في الولايات المتحدة التي تتبنى إسرائيل دون حدود، وتضمن وصول مؤيديها للمناصب الحساسة، تقف أيضاً بقوة في وجه كل ما يعارضها، حتى وإن تعارض ذلك مع مبادئ جوهرية تدعيها. وفجر الهجوم الإسرائيلي الحالي على غزة، وفي تطور غير مسبوق، الانتقادات لإسرائيل وللإدارة الأميركية التي تدعمها، في الكونجرس وفي الوظائف الفيدرالية وفي الشارع، خصوصاً بين الشريحة الطلابية والشباب.

 

اعتبر السيناتور بيرني ساندرز عضو مجلس الشيوخ، من الديمقراطيين التقدميين، أن بلاده “متواطئة في الكابوس الذي يعيشه ملايين الفلسطينيين اليوم”، وأكد أن تقديم بلاده مساعدات عسكرية إضافية غير مشروطة لإسرائيل، يعني موافقتها على ممارسات إسرائيل غير الإنسانية في غزة. وطالب عدد من الديمقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ الادارة الأميركية بوقف إطلاق النار في غزة، وهناك من ربط منهم ذلك الهجوم باستخدام الأسلحة الأميركية. فأرسل عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين، بقيادة إليزابيث وارين رسالة لبايدن تدعوه لضمان عدم استخدام الأسلحة الأمريكية المنقولة إلى إسرائيل بما يتعارض مع القانون الأميركي والقانون الدولي. وطالبت النائبة الديمقراطية رشيدة طليب إسرائيل برفع حصارها عن غزة، وإنهاء الاحتلال، وتفكيك نظام الفصل العنصري.

 

واجهت تلك المطالب انتقادات لاذعة من مجلسي النواب والشيوخ وصلت لمستوى اتهامات نواب بمعاداة السامية. وجاء تصويت مجلس الشيوخ الأميركي ضد اقتراح قدمه السيناتور بيرني ساندرز لربط المساعدات الأمريكية لإسرائيل بمراقبة حقوق الإنسان في غزة، والذي فشل، بمعارضه ٧٢ صوتًا مقابل ١١ صوتًا مؤيدًا.

لم يأت الانتقاد لسياسة الادارة الداعمه لإسرائيل في ذلك الهجوم من الكونجرس فقط، بل جاء أيضاً من قبل عدد من الموظفين الفدراليين، فقد دعا أكثر من ٥٠٠ موظف فيدرالي إلى وقف إطلاق النار في رسالة مفتوحة إلى إدارة بايدن. وقد واجه هؤلاء تهديدات بالطرد والفصل من مناصبهم، إن واصلوا الإعلان في مواقفهم المناهضة لإسرائيل.

 

ازداد دعم الشعب الأميركي خصوصاً من فئة الشباب للقضية الفلسطينية خلال الهجوم الإسرائيلي الحالي بشكل غير مسبوق، وإن بدأ ذلك يتبلور في السنوات الأخيرة. وأصبحت الجامعات الكبرى والمدن المهمة ساحات للاحتجاج والإدانة لسياسات إسرائيل والدعوات لتحقيق العدالة للفلسطينيين. ويمكن فهم مدى تعقد الصورة في الشارع الأميركي، فثلثي الديمقراطيين الشباب، الذين تقل أعمارهم عن ٤٥ عامًا، و٥٧ في المائة من الديمقراطيين من غير البيض، لا يوافقون على سياسة بايدن في غزة اليوم. ورغم ذلك، أصدر مجلس الشيوخ، في التاسع عشر من شهر تشرين الأول الماضي، قراراً يدين حركة حماس والأنشطة الطلابية “المعادية للسامية” في حرم الجامعات الأمريكية، وطالب الكونجرس رؤساء الجامعات بالعمل على مكافحة تصاعد معاداة السامية. فضحت تلك التطورات حقيقة الديمقراطية الأميركية والحريات التي تتغنى بها، حيث بدأت حملات تكميم الأفواه وإسكات الطلاب، والمنظمات المؤيدة للفلسطينيين، والتي هددت الطلاب بالفصل التعسفي. وأصبحت جامعة جورج واشنطن رمزا للصراع بين مسؤولي الجامعة والطلاب المؤيدين للفلسطينيين، حيث قامت بمنع هؤلاء الطلاب من المشاركة في الأنشطة داخل الحرم الجامعي.

 

لا يبدو أن هناك تغيرات جوهرية ستحدث في سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل قريباً، وإن كان ذلك ليس ثابتاً في ظل تغيرات بنيوية تدريجية تحدث في المجتمع الأميركي، قد تقلب المعادلات يوماً رأساً على عقب.

Related posts

قمة الرياض… قمة فاصلة، فهل تنجح وكيف؟

قمة الرياض وتحولات جيواستراتيجة* الدكتور أحمد الشناق

لا نريد كلاما* ماهر أبو طير