لا يحسم القتال بالقوة البشرية والتكنولوجية فحسب إنما يحتاج إلى الحيلة والخداع قبله وأثناءه
عروبة الإخباري –
اندبندنت عربية – نيرمين علي
رافقت الحروب المجتمعات البشرية منذ فجر الحضارة الإنسانية حتى اليوم، ومن الجلي أنها ستبقى زمناً طويلاً إلى أن تلغى الأسباب المولّدة لها، والتي يبدو أن ليس هناك مؤشر يدل إلى زوالها.
وتدور مناقشات عدة بين العسكريين والمثقفين على تسميتها، وينقسمون بين من يعتبرها علماً، ومن يرى فيها فناً صرفاً، ولكن هناك إجماع على أن الحرب تحتاج لكليهما بنسبة معينة، إذاً لا يمكن النظر إلى مجال الحرب كمجال خاضع تماماً للدراسة العلمية والخروج بقوانين تحكمه، وفي الوقت ذاته، لا يمكن النظر إليه كمجال فني محض لا يستطيع العلم معرفته وضبط قوانينه.
التكتيك
ويدرس علم الحرب عادة انطلاقاً من ثلاثة أوجه رئيسة هي، الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي والعمليات والتكتيك والتخطيط التكتيكي، وتعرّف الاستراتيجية بأنها فنّ تنظيم الجيوش وتنسيق القوى ووضع الخطط العسكرية في المعركة، ويعرّف التكتيك بأنه فنّ قيادة واستخدام القوات والسلاح في المعركة، ويعدّ الوسيلة التي تستخدم لإنزال الهزيمة بالعدو، بينما يوصف علم التكتيك بأنه دراسة قوانين الحرب في وضع جزئي، وبينما يكون التكتيك عادة جزءاً من استراتيجية حاكمة إلا أنه من الممكن أن تتضمن الاستراتيجية أكثر من تكتيك واحد.
وفي حين تتنوع تعريفات التكتيك، إلا أنها تتفق بمجملها على نقطة أساسية وهي حصره في عملية الاشتباك التي تضم بشراً وسلاحاً وتشكيلات وأساليب قتال من أجل الوصول إلى الخصم، هو بعبارة مختصرة فنّ استخدام القوات المسلحة في المعركة، إضافة إلى طريقة تنظيمها وتشكيلاتها وتوزيعاتها وتركيزها وحركتها واستخدام أسلحتها.
السلاح والحركة والأرض
ويتناول التكتيك ثلاث مسائل رئيسة هي، السلاح أولاً بقسميه، سلاح الاشتباك القريب والبعيد، والدرع والمتراس والخندق والنفق، إضافة إلى الوسائل المساعدة، وما أضيف إليها في العصر الحديث، وثانياً، فنّ تحريك السلاح وتشكيل القوات وتحريكها، وهو الذي يعطي الحيوية والزخم في المعركة، ومن هنا يوصف التكتيك بأنه فنّ النيران والحركة، وثالثاً، التشكيلات التي تتنوع بين الخط والرتل والمربع وتشكيلة المناوشة وما اشتق عنها، وأخيراً طريقة استخدام أرض المعركة في الجمع بين السلاح والتشكيلات والحركة، فطبوغرافية المعركة تؤسس شرطاً أساسياً للتنفيذ والمناورة التكتيكية.
ويعدّ أسلوب الكمين واختبار قدرة العدو من أقدم التكتيكات الميدانية وأكثرها بدائية، والتي تعتمد على التمويه واستثمار عنصر المفاجأة، وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتلك المستخدمة في الصيد والمطاردة، والتي تميز المجتمعات القبلية في جميع أنحاء العالم، وعلى رغم أن هذا الأسلوب يبدو بسيطاً إلا أنه يحقق أقصى استفادة من التضاريس الصعبة مثل الجبال أو الغابات أو المستنقعات ويتطلب الكثير من المهارة والمعرفة الوثيقة بالمناطق المحيطة.
بين صعود وهبوط
لم يتطور التكتيك العسكري بشكل تصاعدي، إذ لم يكن دائماً على مستوى التطور التقني والصناعي والاقتصادي والاجتماعي، إذ في حين تطور التكتيك في زمن المصريين القدماء، لم يحافظ على التطور في زمن اليونان والرومان والفرس، بل تدنى مستواه، بينما تفوّق العرب على من كان قبلهم في هذا المجال، بخاصة في مجال الحركة التكتيكية وتشكيلات القوات.
وجاء نابليون بونابرت، الذي يلقب بأستاذ التكتيك إلى جانب براعته في العمليات الاستراتيجية، ليجسد التطور الكيفي الذي حدث مع اندلاع الثورة الفرنسية، وكان تكتيكه في المعركة يبدأ بهجمات صغيرة من مجموعات القناصة والمناوشة لإشغال تشكيلات الخطوط وإبقائها في حالة اشتباك، ومن ثم إنهاكها بينما يكون قد ركّز مدفعيته على النقطة التي حددها للاختراق، وما إن يمزّق تلك النقطة وينهنه بقية الجيش بعمليات القناصة، ينتقل إلى الهجوم في اللحظة المناسبة قبل أن يستعيد العدو رباطة جأشه ويعيد تنظيم خطوطه، لا سيما نقطة الاختراق، هنا كان يشنّ هجوم المشاة، وبهذا جاءت انتصاراته الحاسمة.
التكتيك عبر العصور
أما في القرن الـ19، عصر الثورة الصناعية والعلمية، التي شهدت فيه الأسلحة تطويراً واضحاً، بخاصة البندقية السريعة التي أصبحت تعبأ من المخزن، إلى جانب تطوير المدافع وشيوع تنظيم التجنيد الإجباري، لذا اتسمت ملامحه بصور الجيوش الكبيرة المسلحة بالبنادق السريعة الحديثة والمدعومة بثلاثة مدافع لكل ألف رجل، فتميزت الحروب، في تلك الفترة، بوجود جيشين ضخمين تجمّد كل منهما خلف تحصيناته بانتظار هجوم الآخر، مع استخدام شبكة من المتاريس والخنادق من قبل القوات المدافعة.
وفي الحرب العالمية الأولى الزاخرة بالدروس الاستراتيجية والتكتيكية والتي تميزت بولادة تكتيك جديد، راح الجنرالات يجربون تكتيكات جديدة لمعالجة الدفاع المتمرس وراء المدافع الرشاشة والأسلاك الشائكة والتحصينات والخنادق، كان عمادها استخدام المدفعية على نطاق أوسع وأكثف لتزيد نسبتها إلى 20 مدفعاً لكل ألف رجل، إذ كان استخدام المدفعية، في وقت سابق، أساس تكتيك نابليون، بقصد فتح ثغره لشن هجوم المشاة وغالباً ما كان ينجح هذا التكتيك، أما التكتيك المضاد فكان الدفاع المرن إذ يغطى الخط الأمامي للدفاع بقوة خفيفة بينما تنتظر غالبية قوة الدفاع في الخطوط الخلفية لكي تسحق الهجوم عندما يبدأ الاختراق أو لتشن الهجوم المضاد حين يتصدع الهجوم، كما حاول الجنرالات استخدام القنابل الدخانية إلا أنها لم تؤدِ إلى تغيير مرضي، فجاء الحل التكتيكي في استخدام الدبابات المصفحة المحمية من نيران الرشاشات ومن الشظايا، والتي أتاحت سلاسلها إمكانية تجاوز الأسلاك الشائكة والمتاريس والخنادق.
وكانت معركة “أراس” مهدت لتكتيك استخدام الدبابات، إلا أنها كسبت أهمية خاصة، للمرة الأولى، في معركة “كامبريه” 1917، واستخدمت الدبابة كدرع مصفح مسلح بمدفع الرشاش، عوضاً عن القصف الشديد الطويل قبل الهجوم، لتتقدم المشاة ما يسمح للهجوم بأن يكون ناجحاً، ولكن هذا التكتيك جعل الدبابة بطيئة مرتبطة بسرعة أقدام المشاة، أما في الحرب العالمية الثانية، فانتشر مصطلح “بليتزغريك”” Blitzkrieg الذي أطلق على تكتيك الدبابات بمعنى التفوق الكاسح باستخدام الدبابات، وهو عبارة عن اختراق جبهة العدو من نقاط قليلة محددة (نقطتان أو ثلاث) يسبقه قصف مدفعي وجوي، ثم يشق رتل الدبابات المركزة طريقه ليمضي متغلغلاً في العمق، وليبدأ عمليات مناورة استراتيجية خلف خطوط الدفاع، تسيطر بها على الطرقات الرئيسة ومراكز محطات القطارات، وبهذا يحصر الجسم الرئيس للدفاع بين فكي كماشة، عرف هذا التكتيك في ما بعد باسم الحرب الصاعقة”.
وليد ساعات الحرب
وفي حين تتنوع التكتيكات الحربية بشكل كبير، إلا أنه من غير الممكن في عالم الحروب والتكتيكات الاستراتيجية تحديد مجموعة من الحيل والالتزام بها أثناء المعركة، إذ يعتقد القادة أن التكتيك الأمثل يأتي بناء على تطور الأمور في المعركة، فالأمر مفتوح للابتكار والخروج عن المألوف، نظراً لأهمية عنصر المفاجأة وزرع الشك والإرباك في صفوف وتحصينات العدو وتركه في حالة من الذهول، فنجد الأساليب والخطط تتنوع وربما يصل بعضها ليكون غير مقبول على المستوى الأخلاقي، لكن “في الحرب كل شيء مباح”.
ويجمع المتخصصون في هذا المجال أن التكتيك الحديث في عصر الآلة والتقنية المتطورة لا بدّ من أن يقوم أساساً على التأقلم الصحيح بين النيران والحركة والتشكيلات والأرض والمساحة، إلا أن بعض القادة قد ينسى كل هذه العناصر ويعقد كل آماله على القوى التدميرية للسلاح الحديث فقط، لكن تحقيق النصر بقوة السلاح وحده غير وارد في الحرب الحديثة حتى عندما يكون التفوق كبيراً، فمعظم الأخطاء المرتكبة في هذا المجال تكمن في عدم إدراك أهمية تأقلم التكتيك مع كل سلاح وحالة جديدة.
والأكيد أن الحرب لا تحسم بالقوة البشرية والتكنولوجية فحسب، إنما تحتاج أي حرب إلى الحيلة والخداع قبلها وأثناءها.