عروبة الإخباري –
كثيرة هي الشواهد التي تبرهن على تآكل النفوذ الأمريكي عالمياً، ومايحدث في جمهورية النيجر هو أحدث هذه الدلائل والشواهد، فرغم الموقف الأمريكي الصارم من الإنقلاب العسكري، فإن المجلس العسكري الحاكم في النيجر قد أعلن عن محاكمة الرئيس المخلوع بازوم بتهمة الخيانة العظمي لاتصاله برؤساء دول اجنبية ومنظمات دولية، لإعادته الي الحكم ضد إرادة شعب النيجر، وهذه التهمة تعني أن المحاكمة، إن تمت، فسيكون مصير بازوم هو الإعدام !
موقف الولايات المتحدة مما يجري في النيجر أثار إستياء فرنسا، وذكرت صحيفة “لوفيغارو” أن زيارة فيكتوريا نولاند، القائمة بأعمال النائب الأول لوزير الخارجية الأمريكي للنيجر فور حدوث الإنقلاب قد ازعجت باريس للغاية، حيث عكست تضارب وجهات النظر بين البلدين، ومنحت قادة الإنقلاب الفرصة لكسب الوقت والمناورة بين الموقف الفرنسي الداعم لتوجه المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “ايكواس” في تنفيذ عملية عسكرية في النيجر لإعادة الرئيس بازوم إلى منصبه، وموقف الولايات المتحدة التي اعتمدت التفاوض مع المجلس العسكري لحل الأزمة مع بعض التلميح إلى إستخدام القوة، وفشلت في ذلك حتى أنها توقف عن المطالبة بإعادة الرئيس السابق إلى منصبه، وهذه أيضا رسالة بالغة الأهمية لحلفاء الولايات المتحدة الذين يترقبون موقفها مما يحدث، حيث تخلت بسهولة عن حليف جديد لها في أفريقيا بعد فشلها في تأكيد نفوذها ودورها.
إستياء فرنسا من الموقف الأمريكي في النيجر لا يرتبط بهذا البلد فقط، بل ينطلق من مكانة أفريقيا نفسها في السياسة الخارجية الفرنسية، حيث تعتمد باريس بشكل كبير على نفوذها وعلاقاتها الأفريقية كرافعة استراتيجية لدورها على الصعيد الدولي.
وفي السنوات الأخيرة، ومع تآكل النفوذ الأمريكي في مناطق عدة من العالم، والذي تزامن مع بروز قارة أفريقيا كساحة تنافس جيواستراتيجي واعدة في ظل التمدد الصيني والروسي المتسارع داخل القارة، اتجهت واشنطن إلى العمل بقوة لتعزيز نفوذها في أفريقيا، من دون تنسيق للأدوار مع فرنسا، بل وزاحمتها أحياناً في الدول ذاتها التي تحتفظ فيها باريس بنفوذ تاريخي.
نموذج التعاطي الأمريكي مع أحداث النيجر يعد مثالاً جيداً على أسباب تراجع القوة والنفوذ الأمريكيين عالمياً، حيث تتردد إدارة الرئيس جو بايدن كثيراً قبل أن تشير، ولو من بعيد، لإمكانية إستخدام القوة العسكرية في تنفيذ أهداف سياستها الخارجية، ولا توظف دبلوماسية “العصا والجزرة” في عملها، بل تطغي الدبلوماسية على أدائها وهذا أمر لا غبار عليه، ولكن الخطير في الأمر أن الجميع على يقين من أن البيت الأبيض لن يخوض أي معارك أو يوقع على تدخلات عسكرية في عهد الرئيس بايدن، وأن الإشارات التي تصدر على إستحياء عن إمكانية استخدام القوة في الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة نفسها ناهيك عن حلفائها الاستراتيجيين، هي مجرد كلمات لا تعكس نوايا حقيقية كما كان حال الخطاب الأمريكي في عهد رؤساء سابقين.
ثمة مسألة أخرى أن التنافس بين الولايات المتحدة وفرنسا في أفريقيا قد طغي على التنافس المفترض بين الولايات المتحدة وخصومها الإستراتيجيين الآخرين مثل روسيا والصين، حيث تتحرك واشنطن في الدول والمناطق ذاتها التي تمثل مجال نشاط حيوي للدبلوماسية الفرنسية، وبالتالي يصبح الدور الأمريكي خصماً مع النفوذ والدور الفرنسي، ولا يحقق أي قيمة نوعية مضافة للغرب في إطار الصراع الجيواستراتيجي على نظام مابعد أوكرانيا.
الواضح أن تنامي العداء الأفريقي للغرب سيضر بكل من فرنسا والولايات المتحدة معاً في ظل غياب التنسيق المفترض للتعاطي مع الدول الأفريقية، وهو مايصب بمصلحة روسيا والصين، اللتين تشير التقارير إلى أنهما سيسيطران على نحو 7% من الإنتاج العالمي من اليورانيوم في أفريقيا (تحتل ناميبيا المرتبة الثالثة عالميا في انتاج اليورانيوم بـ5آلاف و600 طن عام 2022، بينما احتلت النيجر المرتبة السابعة عالمياً بـنحو ألفان طن سنوياً أي نحو 5% من الإنتاج العالمي في العام ذاته) ، والنقطة الأخطر تكمن في العراقيل التي ستواجه خطط مكافحة التطرف والارهاب في العديد من الدول الأفريقية، التي أصبحت ساحة معلنة لأنشطة تنظيمي “داعش” و”القاعدة”.
التحولات الجيوسياسية في منطقة الساحل هو أحد مؤشرات الصراع على النفوذ بين القوى الكبرى، والنيجير وغيرها من دول تلك المنطقة ستكون ساحة صراع جديدة بين الغرب وروسيا، التي أصبح لها موضع قدم في منطقة ظلت طيلة التاريخ بعيدة عن نفوذها وتأثيرها الإستراتيجي، حيث يتمدد النفوذ الروسي من بوركينا فاسو ومالي ليصل إلى النيجر في خسارة إستراتيجية فادحة لفرنسا، التي تفقد دورها ونفوذها في أفريقيا بشكل متسارع، وهو ما يؤثر في قضايا وملفات أخرى حيوية لأوروبا أبرزها الهجرة غير الشرعية التي تعد النيجر أحد أهم طرق التحكم بها.
فشل السياسة الخارجية الأمريكية والفرنسية في منطقة غرب أفريقيا، التي تشمل النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو وموريتانيا، والتي كانت فرنسا تعدها منطقة نفوذ خاصة لها، كانت أحد أسبابه طغيان الاقتصاد على السياسة، ماتسبب في فقدان الاثنين معاً، فالصين وروسيا تواجدتا في مالي والنيجر بقوة من بوابة الأمن والنفط واليورانيوم، فضلاً عن ضعف قدرة الدول الغربية على مكافحة الارهاب، التي تسعى واشنطن للعب دور فيه من خلال “مبادرة عبر الساحل” التي اطلقتها عام 2003، ولكن بتمويل ضعيف للغاية لا يتجاوز 6 مليون دولار، والتي طوّرتها إلى مبادرة “مكافحة الارهاب عبر الصحراء”، بتمويل وصل إلى 400 مليون دولار، والأهم مما سبق هو صعود تيار أفريقي يتنامي في عدائه للعلاقات مع الغرب تحت شعار التخلص من الهيمنة الأجنبية وتوظيف ثروات دول القارة لمصلحة شعوبها وهو أمر كان على باريس وواشنطن الإنتباه لمقدماته منذ سنوات طويلة مضت .
سالم الكتبي
باحث وكاتب رأي ومحلل سياسي إماراتي حاصل على شهادة الدكتوراه، بميزة مشرف جدا مع التوصية بالنشر، من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. كاتب مقالات في العديد من الصحف والمواقع الالكترونية العربية والدولية. عضو في نادي الصحافة ببروكسل – نادي لندن للصحافة – الاتحاد الدولي لصحفيين – الاتحاد العام لصحفيين العرب – جمعية الصحفيين في الإمارات – عضو بالمعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن (تشاثام هاوس) – جمعية الإمارات لحقوق الإنسان.