عروبة الإخباري –
كلمة معالي وزير الخارجية في جمهورية أذربيجان جَيْهون بايْراموف خلال الجلسة الخاصة للمجلس الدائم لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا
(6 يونيو 2023)
السيد الرئيس،
السفراء الكرام
السيدات والسادة،
أشعر اليوم بامتنانٍ بإتاحة الفرصة لإلقاء كلمة في المجلس الدائم لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
إن البيئة الأمنية العامة في منطقة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تبقى متوتّرةً ومُعقّدةً في ضوء التهديدات والتحديات المستمرّة للسلم والاستقرار. الثقة بين الدول المشارِكة تزداد ضِعفاً، تزايد المنافسة بين المجموعات السياسية-العسكرية يؤثّر سلباً على تعددية الأطراف، بما فيه على عمل المنظمة. تتعرض سلامة دولنا، بما فيها أمن ووحدة مجتمعاتنا لهجومٍ على خلفية ارتفاع الكراهية العرقية والدينية، بل والتمييز. فيزعزع كل ذلك الأمن القائم على التعاون الشامل، ويعرّض تماسك الأمن التي تثبّته الوثائق الأساسية للمنظمة لخطرٍ.
إن مبادئ والتزامات المنظمة، وعلى رأسها احترام سيادة ووحدة أراضي وحرمة حدود الدول الأعضاء فيها الذي تثبّته وثيقة هلسنكي الختامية، والذي أكّدته وثائق وقرارات أصدرتها المنظمة لاحقاً، يجب أن تظلّ أساساً للسلم والأمن، وأن تنطبق بعيداً عن ازدواجية المعايير والأفضليات الجغرافية ودون تحفظ.
إن نشاطنا المستديم في إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا هو خير دليل على التزامنا بمساهمة في السلم والأمن والاستقرار في منطقة المنظمة. تقدّر أذربيجان باعتبارها دولة غير مشاركة في مجموعات عسكرية – سياسية، المنظمة على أنها ركيزة رئيسية للهيكل الأمني الأوروبي المبني على المبادئ الأساسية المسترشَدة في العلاقات بين الدول.
إن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا هي ثروة عامة ل57 دول مشاركة فيها. آلات المنظمة التي جرى تكوينها في سياق رؤيتها الأمنية الشاملة المبنية على التعاون، وخبرة المنظمة المقتناة في هذا السبيل، قد تكون نافعة وفاعلة بشرط توفيقها (الآلات والخبرة) لاحتياجات الدول المشاركة الخاصة بناءً على طلبها، وتطبيقها على أساس موافقة الدول المعنية ودعمها النشِط.
إن أذربيجان مناصر قوي لتعددية الأطراف الفاعلة من خلال المنظمة أيضا، وتهتمّ بالتعاون في إطار المنظمة وهيئاتها طبقاً لمتطلبات التعددية وأولويتها. ونؤمن بأن المنظمة ما زالت تمتلك المميّزات الهامة عبر رؤيتها الأمنية الشاملة وعضويتها الواسعة واعتماد قرارات بإجماع. وبالتالي، لا تحظى المنظمة في اللحظة الحالية بقدرةٍ على توفير ردّ فاعل على العديد من المخاطر والتحديات لأمننا واستقرارنا، وبإرادة سياسية ومقدرة مؤسساتية.
فلذا، على المنظمة أن تكون مرِنة ومتكيّفة بهدف الحفاظ على أهميتها والتوافق مع بيئة سريعة التطوّر. حلول مشتركة فحسب قد تؤتي نتيجة. الوفاء لقصص وفرضيات قديمة ليست لها جدوى وتجرّ المنظمة إلى الوراء فقط. السبيل الوحيد هو أن تصبح المنظمة أكثر ينوعاً وقوةً. ومن المطلوب أن يتمّ قبول حلول مُبدعة تأخذ في الاعتبار الواقعيات سواء داخل منظمتنا أو خارجها في إطار التوافق الجماعي على وثائقنا وقراراتنا.
إننا نتفق على ضرورة توفير الموارد اللازمة للمنظمة في هذه اللحظة الحرجة والحاسمة لغاية ردّ فاعل على التحديات. لذلك، فندعم إقراراً مسبقاً لميزانية هيئات المنظمة ذات صلة تخصص موارداً محدودة لقطاعات أكثر احتياجاً. وينبغي تصفية عمل الهيئات غير النشطة والقديمة. كما نؤيد تمديد ولايات الأمينة العامة هيلغا شميد ورؤساء المعاهد الثلاثة.
إن الرؤية الأمنية الشاملة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا تتطلب توفير التوازن بين كل الأبعاد الثلاثة التي لا بد أن تنعكس في برنامج أنشطة الهيئات التنفيذية. فلذا، نناصر تقوية البُعد الثاني – بعد التعاون الاقتصادي والبيئي، الذي يتمتع بالفرص الكامنة غير المستغلّة، والذي بإمكانه أن يعالج التقسيم في هذه الفترات العسيرة، لا سيما عبر تسهيل النقل والتجارة، والتغيير المناخي وإعادة تأهيل البيئة. غير أن ذلك يجب ألا يحدث على حساب البُعديْن الآخرين اللذيْن يحظيان بنفس قدر من الأهمية على غرار البعد الأول، واللذيْن يتواصلان معاً.
إن الرؤية الأمنية الشاملة للمنظمة وآلاتها التي جرى تكوينها تتطلب اهتماماً متساوياً في كافة المراحل لفترة صراع، بما في ذلك إعادة التأهيل فيما بعد الصراع.
المندوبين الدائمين المحترمين،
على الرغم من أن عملية التطبيع المستمرّة بين أذربيجان وأرمينيا تسير خارج سياق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فإنني أريد أن أشاطر المجلس الدائم أفكاري وتقديراتي بشأن المرحلة الحالية من المفاوضات الثنائية بسبب أن استتباب السلام والاستقرار في جنوب القوقاز سوف يُسهم في الأمن في منطقة المنظمة، وسوف يؤثّر بالإيجاب على العمل ضمن المنظمة.
إنه مع انتهاء الصراع المسلّح بين أرمينيا وأذربيجان الذي دام نحو ثلاثين عاماً، ومع تعهد الدولتيْن باحترامٍ متبادل تجاه سيادتهما ووحدة أراضيهما وحرمة حدودهما، أضحى السلام سهل المنال ولأول مرة بعد استعادة البلديْن استقلالهما.
وبعد انتهاء الصراع السلّح على أساس البيان الثلاثي عن 10 نوفمبر عام 2020، بدأت أذربيجان تمارس عملاً نشطاً صوبَ توفير السلام مع أرمينيا وذلك بغض النظر عن كل المعانات والحرمان والدمار التي تعرّض لها الشعب الأذربيجاني على مدى السنوات الطويلة. خلاص الصراع قد آتي بفرص وآفاق حقيقية لإقامة السلام وتعزيز الاستقرار وتوفير التعايش السلمي والمُضي قدماً في أجندة التطبيع والاسثمار في التنمية والتعاون الاقتصادي.
وانطلاقاً من هذه المقاربة، قد تقدمت أذربيجان بأجندة تطبيع ما بعد الصراع مع أرمينيا. ويُجري الطرفان المفاوضات حول نصّ اتفاقية ثنائية من شأنها تأطير العلاقات بين الدولتيْن القائمة على اعتراف متبادل بسيادتهما ووحدة أراضيهما وحرمة حدودهما الدَولية واحترامها. المفاوضات التي أجرِيت في واشنطن وبركسل وموسكو وكيشينا على امتداد بضعة أسابيع أخيرة، قد خدمت مزيداً من فهم الهواجس الرئيسية لدى الطرفين، وساعدت على تقليص اختلاف الآراء حول بعض القضايا. تلتزم أذربيجان بأجندة التطبيع، وتنتظر الإرادة السياسية المتبادلة من قبل أرمينيا فيما يتعلق بمعالجة اختلاف الآراء حول المسارات الثلاثة المحددة التي تصوغ جدول النقاشات الثنائية وهي توقيع اتفاقية حول إقامة العلاقات الدوْلية في أسرع وقت، تحديد الحدود الدوْلية وفتح خطوط النقل والمواصلات في المنطقة.
إن إقرار أرمينيا بسيادة ووحدة أراضي أذربيجان، بما فيها إقليم قره باغ وإعلانها عن ذلك، يشكّل التفاءل الحذر. وبالتالي، كما هو الحال دائما أن أعمالاً تتحدث بصوت أعلى من أقوالٍ. البيانات التي تُصدرها القيادة الأرمنية لا بدّ أن تنعكس في سلوك البلد على أرض الواقع، حتى يتمّ التوصّل في نهاية المطاف إلى تقدم.
وفي هذا السياق، التواجد العسكري المتواصل غير المشروع لأرمينيا على الأراضي الأذربيجانية ذات السيادة، وتدخل أرمينيا المطّرد في شؤوننا الداخلية، وحيلولتها دون الحوار بين السلطات التنفيذية المركزية الأذربيجانية والسكان المحليين من أصل أرميني في إقليم قره باغ، وحملة تشويه واسعة النطاق التي تقوم بها على نطاق دولي وضمن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، تتعارض مع التعهد السالف الذكر، وتُعدّ عائقةً أساسية أمام المفاوضات حول التطبيع بين أذربيجان وأرمينيا.
السيد الرئيس،
لقد أطلقت أذربيجان إلى جانب عملية التطبيع، مساعٍ واسعة من إعادة التأهيل والإصلاح وإعادة الدمج بعد الصراع بهدف إزالة التداعيات البالغة التي خلّفها الاحتلال العسكري لأراضينا طوال 30 عاماً، مما يستهدف في المحصّلة النهائية، توفير حق تنفيذ الحقوق المنتهَكة مثل عودة آمنة وكريمة لمئات آلاف الأذربيجانيين إلى بيوتهم والتعايش السلمي للمواطنين الأذربيجانيين الذين تضرروا من الصراع.
إن أذربيجان حازمة وجازمة على إعادة دمج السكان الأرمن في إقليم قره باغ في الإطار السياسي والقانوني والاقتصادي والاجتماعي لأذربيجان كالمواطنين ذوي الحقوق المتكافئة، حيث قد عيّنت الحكومة مندوباً خاصاً لها في الحوار مع السكان الأرمن المحليين لغاية نقاش الأمور المرتبطة بإعادة دمجهم الذي توفّر له الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والاتفاقية الإطارية الأوروبية لحماية حقوق الأقليات القومية ودستور أذربيجان وتشريعاتها الوطنية على وجه الخصوص إلى جانب الوثائق الدولية التي نشارك بها، توفّر أرضية وجيهة.
يشكّل إعلاء القانون والحماية المتكافئة للجميع أمام القانون قاعدةً للرؤية الأمنية الشاملة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ويتوجب أن يتمّ التعامل مع حقوق الإنسان بشكل عادل ومتساوٍ، وبمواقف متشابهة. مثلما يرد في اتفاقية كوبنهاغن للمنظمة، فإن الخطوات المتّخَذة لحماية الأشخاص المنتمين إلى الأقليات القومية ينبغي أن تتماشى مع المبادئ القائمة على المساواة وعدم التمييز إزاء مواطني دولة مشاركة أخرى.
إن عدم التدخل في شؤون الدول وعدم الإخلال بدمج الأشخاص المنتمين إلى الأقليات القومية أو عدم تأجيج الإنفصالية في أراضي الدول المجاورة يحمل قدر متساوٍ من الضرورة أمام جميع الدول. فحماية حقوق الإنسان للأشخاص المنتمين إلى الأقليات القومية لا يُفترض بها ضرورة انتهاك السلامة الإقليمية للدول، بل وتعزيزها. وقد عاد الفوج الأول من الأسر المشرّدة إلى قرية آغالي لدى محافظة زانجيلان وقرية تاليش لدى محافظة تارتار ومدينة لاتشين الأذربيجانية نتيجة المساعي الدؤوبة التي تقوم بها الحكومة.
لكن تلويث الأراضي الأذربيجانية بألغام ومتفجرات أخرى على نطاق واسع، تقف معوّقاً أساسيا أمام تلك المساعي، وشكّل خطراً إنسانياً جدياً. ويمكن القول أن الألغام التي زُرعت بصورة عشوائية، تواصل أن تُزهق أرواح الناس يومياً.
إن رفض أرمينيا مشاركة كافة الخرائط للأراضي الملغّمة واستمرارها في زرع الألغام وإنشاء أفخاخ مُلغّمة حتى بعد أن أعلنت وقف كل الأعمال العسكرية، يزيد من تفاقم الوضع وعدد الضحايا. ومنذ توقيع البيان الثلاثي في عام 2020، قد صار 320 فرد ضحايا الألغام، بما فيها تلك المزروعة في الأراضي الأذربيجانية بعد البيان المذكور.
لقد حدّدت الحكومة الأذربيجانية مكافحة الألغام كإحدى الأولويات الوطنية لها من أجل تمكين المشرّدين من عودة آمنة وطوعية وكريمة. كما تصوغ الهدف التنموي المستدام الوطني الخاص لإزالة الألغام. بخلاف ذلك، تشجّع أذربيجان على تكوين الهدف التنموي المستدام العالمي الجديد حول أنشطة إزالة الألغام للأغراض الإنسانية.
أخذاً في الاعتبار مشكلة الألغام المستمرة في أذربيجان والصعوبات التي تواجهها الجهات الوطنية في معالجة تلك المشكلة، فتحتاج أذربيجان إلى دعم دولي حثيث لتمتين قدراتها على مكافحة الألغام. إنما مثل هذا الدعم لا يُوجَّه إلى مساعي إزالة الألغام فحسب، بل سيُسهم في الحملة العالمية لمكافحة الألغام، وسيُظهر إلتزاماً بالسلام والاستقرار في المنطقة أيضا.
السفراء المحترمين،
يحمل توفير العدالة لجرائم الحرب الخطيرة والجرائم ضد البشر شأناً هاماً، ونحن باشرنا بعلاج جروحنا. ومن هذه الزاوية، يحمل تسليط الضوء على مصير ما يقارب 4000 مفقود جرّاء الصراع، أهمية خاصة. للأسف أن أرمينيا تتمادى في عدم الاكتراث بدعواتنا المتعاقبة إلى الالتزام بتعهداتها إزاء كشف المعلومات عن أماكن الأشخاص المفقودين طبقاً للقانون الإنساني وقانون حقوق الإنسان.
وفي المقابل، نواجه دوام الكراهية والتعصّب الذي يقوّض الثقة، حيث تأتي قضية العسكرييْن الأذربيجانييْن ظاهرةً بارزة لذلك. وعوضاً عن اتخاذ الإجراءات للتحقيق في تعذيب المواطنيْن الأذربيجانييْن والمعاملة المُذّلة لكرامتهما وجلب الجُناة إلى المسؤولية، ترفض الحكومة الأرمنية إعادتهما إلى الوطن، متذرعة بتهم وهمية بحقهما.
إن أذربيجان، إلى جانب كونها ملتزمةً بتعهداتها الدولية ومنفتحةً على حوارٍ بنّاءٍ، لن تُغمض عينها عن مخالفة القانون الدولي وستواصل خطواتها المتتابعة على مستوى دولي، خاصة أن أذربيجان قد بدأت الإجراءات القضائية التي من شأنها أن يتمّ استجواب أرمينيا عن انتهاكها الصارخ للحقوق الإنسانية الدولية وحقوق الإنسان ومعاقبة مرتكبي الجرائم المنقطعة النظير وجلبهم إلى المسؤولية.
وتؤمن أذربيجان بإخلاص بأن التطبيع بين أذربيجان وأرمينيا على أساس الاعتراف المتبادل بسيادتهما وسلامتهما الإقليمية وحدودهما الدوْلية واحترامها، هو السبيل الوحيد لضمان السلام والاستقرار الدائميْن في المنطقة.
إننا حازمون وجازمون على المضي قدماً في أجندة التطبيع عبر المفاوضات الثنائية. وفي هذا المسعى، نستند إلى دعم عادل ونزيه لشركائنا الدوليين الذين يستهدفون سلاماً ورخاءً في جنوب القوقاز.
شكراً