عروبة الإخباري – إن دماء الشهداء من أبناء هذا الجيش ما زالت منارات وشواهد على البطولات التي سجلوها على أسوار القدس، وفي اللطرون وباب الواد والكرامة وفي أماكن كثيرة على الأرض العربية” من أقوال الحسين بن طلال طيب الله ثراه.
الكرامة أهزوجة النصر العربي
يعيش الأردن وأمّته العربية هذه الأيام زهواً وفخاراً بذكرى معركة الكرامة الخالدة، وأمجادها الرائعة، ونستذكر ذلك الإنجاز العسكري والانتصار العربي البارز، ونحن نستعرض صفحة الكرامة الناصعة من صفحات تاريخ الجيش العربي، ونقرأ أسفاراً من أمجاد البطولة لجيشنا الباسل في معاركه التي خاضها خلال سنوات الصراع العربي الإسرائيلي، ذلك هو تاريخه المشرف وهو يدافع غرب النهر عن ثرى فلسطين وذوداً عن الأقصى والمقدسات، على أسوار القدس وبوابة الأقصى والصخرة المشرفة ومهد المسيح والقيامة وخليل الرحمن، وعن كل حبة تراب من الثرى الطهور وعن ثرى الجولان وفي مواقع عديدة من الوطن العربي.
البيئة الجيو- سياسية قبل معركة الكرامة
يمكن تلخيص البيئة الجيو- سياسية التي سبقت معركة الكرامة بما يلي:
أ) بعد انتهاء حرب 1967:
أصبحت الشريعة (نهر الأردن) خط وقف إطلاق النار بين الأردن وإسرائيل، وامتداد وادي عربة جنوبا حتى العقبة حيث كانت القوات الأردنية ترابط على أطول خط لوقف إطلاق النار خلال فترة الصراع العربي الإسرائيلي ويبلغ طول الواجهة تقريباً (480) كم.
ب) كانت المناطق المتاخمة لخط وقف إطلاق النار مناطق زراعية من الدرجة الأولى، وتكثُر فيها البيارات والبساتين، وكان المواطنون الأردنيون يقومون بزراعة هذه الأراضي والقيام عليها تحت إشراف وحماية سيطرة الجيش العربي، واستمروا بالعمل في أرضهم وبيوتهم بمؤازرة ودعم الجيش العربي لهم، وقد كان قسمٌ كبيرٌ من الأراضي مزروعاً بحقول الألغام (التي تمت إزالتها بعد اتفاقية السلام بين الأردن وإسرائيل)، حيث كانت هذه الحقول جزءًا من الخطة الدفاعية الأردنية أيام تلك الفترة، ولا تزال المواقع هي ذاتها منذ انتهاء حرب الأيام الستة عام1967م.
ج) كان الأردن يتحمل مسؤولية دعم الفدائيين والسماح لهم بالتواجد على أراضيه، وهذا عائد لاستقلالية القرار الأردني من ناحية، ومن ناحية أخرى لاعتماد الأردن على قواته المسلحة في حماية أراضيه والدفاع عنها ضد أي تهديد، وأن معركة الكرامة لم تقع فجأة بل كانت الفترة التي سبقتها وتلت حرب 67 مسرحاً لمعارك يومية بين الجيش العربي والقوات الإسرائيلية.
د) كانت إسرائيل تعي أهمية الدور الأردني في المنطقة، والذي كان يشكل رأس الحربة في النضال القومي خلال فترة الصراع، وعليه فقد كان لها أطماع وأهداف إستراتيجية كانت تخطط لها، وتتحين الفرص لتنفيذها ضد الأردن، حيث كانت الأجواء السائدة آنذاك أفضل الأجواء، فأخذها العدو ذريعة وغطاء لتنفيذ تلك الأهداف مثل مقولة (تدمير قواعد العمل الفدائي في غور الأردن)، إذ إن مثل هذه المقولة لا تحتاج إلى هذا الحشد العسكري الهائل أو تلك الحركة العسكرية طالما إن لدى إسرائيل من وسائل ومضاعفات القوة ما يكفي لقصف وتدمير الأغوار دون اللجوء إلى مهاجمتها عسكرياً، الأمر الذي كان أبعد بكثير من تلك الذريعة التي خلقتها إسرائيل لتبرير هجومها العسكري واعتدائها على الأراضي الأردنية.
هـ) كانت الإستراتيجية السياسية والعسكرية المتبناة في فرض سياسة الأمر الواقع، وهذه تحتاج إلى عمل إجراء على الأرض لتستطيع إسرائيل من خلاله الحصول على ورقة مهمة تفاوض عليها سياسياً في مراحل لاحقة، وما يؤكد الأهداف الإستراتيجية، تلك العملية التي أذيع أنها كانت أهداف إسرائيل في إعادة رسم حدودها إلى أبعد مما هي عليه.
و) كان تموضع قوات الجيش العربي على الواجهة الوسطى وعلى أخطر الكريدورات التي تقود إلى المرتفعات الشرقية مرتفعات ناعور والسلط، بالتالي إلى مركز الثقل (عمان)، وهو الأساس في الخطة الدفاعية لقوات الجيش العربي على ذلك الكريدور خلال الفترة التي سبقت المعركة، والذي يتضمن أخطر المقتربات التي تقود بسرعة ومن أقصر الطرق إلى أهداف حاسمة ومهمة.
تحليل الجوانب المهمة في معركة الكرامة
بغية الوقوف على الحقيقة لا بد لأي محلل عسكري لسير معركة الكرامة من أن يُحكِم المنطق العسكري أثناء التحليل، حيث أن تلك المعركة التي خاضها الجيش العربي لم تكن عملية محدودة ضد هجوم منفرد قامت دورية بغارة مسلحة على هدف محدد، بل كانت معركة واسعة استمرت لفترة من الزمن على رقعة من الأرض شاركت فيها كافة الأسلحة، ولكي نقف على حقيقة تلك المعركة فلا بد من إخضاع الجوانب المهمة التالية في تلك المعركة للتحليل.
أ) طبيعة المعركة:
إن معركة الكرامة تعتبر من المعارك العسكرية المخطط لها بدقة، نظراً لتوقيت العملية وطبيعة ونوع الأسلحة المستخدمة فيها، حيث شاركت بها من الجانبين أسلحة المناورة وعلى اختلاف أنواعها إلى جانب سلاح الجو لعبت خلالها كافة الأسلحة الأردنية، وعلى رأسها سلاح المدفعية الملكي أدواراً فاعلة طيلة المعركة، وبالنظر لتوقيت المعركة نجد أن لتوقيت الهجوم (ساعة الصفر) دلالة أكيدة على أن الأهداف التي خُطِطَّ للاستيلاء عليها هي أهداف حاسمة للمهاجم، وتحتاج القوات المنفذة لفترة من الوقت للعمل قبل الوصول إليها واحتلالها (وهذا يؤكد وبشدة مقولة أن هدف معركة الكرامة هو فقط تدمير قواعد الفدائيين الفلسطينيين في الأغوار) من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن طبيعة الأسلحة المشاركة في تلك المعركة من الجانب الإسرائيلي (جميع أسلحة المناورة المسندة بأسلحة الإسناد والمدعومة بسلاح الجو) تؤكد أن المخطط لتلك المعركة كان قد بنى خططه على معلومات استخبارية وأمنية اتضح من خلال تقديمها حجم القوات الأردنية المقابلة وتسليحها وطبيعة دفاعها، الأمر الذي حدد لذلك المخطط زج هذا الحجم الهائل من القوات بغية تحقيق عنصر المفاجأة، وإدامة الاستحواذ على عنصر المبادأة أو المبادرة، لتأسيس جسر يسمح باستيعاب باقي القوات المخصصة للهجوم بغية الوصول إلى الأهداف النهائية المبتغاة.
ويؤكد حقيقة لا مُراء فيها وهي أنه لا يمكن للأفراد (مسلحين بأسلحة خفيفة من الوقوف أمام هذا المد الإسرائيلي والجيش المُنظم والمُسلح بمختلف أنواع الأسلحة) إذا إن زخم الهجوم ما كان ليكُسر لولا أن القوة المقابلة كانت كبيرة ومُنظمة، وتعمل من مواقع دفاعية مُنظمة ومُخططة وفقاً لأسلوب الدفاع الثابت، حيث أن القوات التي عبرت النهر جرى التماس معها منذ البداية واستدراجها إلى ما بين الخطوط الدفاعية الأردنية على جبهة المعركة حتى جرى امتصاص زخم هجومها في عمق المواقع الدفاعية التي تعبر جهة الموقع الدفاعي الرئيس، حيث خاضت مما هو متاح لها معركة كبيرة في ذلك اليوم.
ب) اتساع جبهة المعركة:
لم تكن معركة الكرامة محدودة تهدف لتحقيق هدف مرحلي كما أشيع، بل كانت معركة امتدت جبهاتها من جسر الأمير محمد شمالاً إلى جسر الأمير عبدالله جنوباً في الأغوار الوسطى، وفي الجنوب كان هناك هجوم تضليلي على منطقة الغور الصافي وغور المزرعة.
ومن خلال دراسة جبهة المعركة نجد أن الهجوم الإسرائيلي قد خُطِطَ له على أكثر من مقترب، ما يُؤكد مدى الحاجة لهذه المقتربات لاستيعاب القوات المهاجمة وبشكل يسمح بإيصال أكبر حجم من تلك القوات على اختلاف أنواعها وتسليحها وطبيعتها إلى الضفة الشرقية بغية إحداث المفاجأة والاستحواذ على زمام المبادرة، بالإضافة إلى ضرورة إحداث خرق ناجح في أكثر من اتجاه يتم البناء عليه لاحقاً ودعمه بغية الوصول إلى الهدف النهائي، ومن ناحية أخرى فإن جبهة المعركة تؤكد أن تعدد المقتربات كانت الغاية منه تشتيت الجهد الدفاعي لمواقع الجيش العربي المرابطة في المواقع الدفاعية، حيث كانت قوات منظمة أقامت دفاعها على سلسلة من الخطوط الدفاعية بدءًا من النهر وحتى عمق المنطقة الدفاعية، الأمر الذي لن يجعل اختراقها سهلاً أمام المهاجم وكما كان يتصور، لا سيما أن المعركة قد جاءت مباشرة بعد حرب عام 1967.
ج) أهداف المعركة:
لم تكن الأهداف النهائية للمعركة التي خطط لها الإسرائيليون كما يشاع (تدمير قواعد العمل الفدائي في غور الأردن) حيث أن معركة الكرامة كانت ذات أهداف إسرائيلية إستراتيجية وحاسمة تهدف إلى احتلال سلسلة الجبال الشرقية بغية فرض سياسة الأمر الواقع، وهذا يؤكده حجم القوات التي تم حشدها لهذه العملية، حيث وصلت إلى ما يربو على ثلاث فرق عسكرية عَبَر جزء منها شرقي النهر، وكانت بقية القوات تحتشد في عمق المنطقة العسكرية الوسطى وتنتظر دورها في العبور نحو أهدافها، حيث أن خريطة خطة الهجوم كانت تبين الأهداف النهائية بوضوح، وإن المحلل العسكري عندما يرى تلك الأهداف يستطيع أن يخمن ويقدر حجم القوات اللازمة لتنفيذ الهجوم عليها، الأمر الذي يؤكده حجم القوات التي تم حشدها فعلياً في تلك المعركة، بالإضافة إلى ما تناقلته وكالات الأنباء آنذاك من أن وزير الدفاع الإسرائيلي موشي دايان أوعز للعديد من الصحفيين للاستعداد لحضور مؤتمره الصحفي الذي سيعقده في عصر ذلك اليوم في بقعة ما من المنطقة، وما كان لهذا الهوس أن يقهر لولا وقفة الجيش العربي في وجه تلك القوات المهاجمة حيث قاتل كجيش منظم ومدرب ومسلح مستخدماً ما هو متاح له بأفضل السبل.
نتائج المعركة
أ. كانت معركة الكرامة نقطة تحول في تاريخ الأمة العربية الحديث، وفي تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث طلب العدو، ولأول مرة، وقف إطلاق النار، وامتنع العدو بعد معركة الكرامة عن خوض أي معركة بالقوات الأرضية، واقتصرت معاركه على القصف الجوي والمدفعي، واستخدام القوات المحمولة جواً وهبوطها في الأماكن النائية والمعزولة، وتدمير بعض الجسور.
ب. على الصعيد السياسي، خسرت إسرائيل خسارة كبيرة، ووصمت بالعدوان، وتحول قسم كبير من الرأي العام إلى الصالح العربي، وظهرت موجات من التذمر في أوساط إسرائيل الداخلية الرسمية والشعبية.
ج. على الصعيد الاقتصادي، قُدرت خسائر إسرائيل بالملايين، حيث استخدمت أسلحة تعادل فرقة من الدروع والمدفعية والمشاة، وعدداً هائلاً من الطلعات الجوية والتي كلفت نفقات باهظة حالت دون تحقيق أي أهداف تذكر.
د. على الصعيد النفسي فشل العدو في تحقيق هدفه بتحطيم إرادة الجيش والشعب الأردني، بل جاءت النتيجة عكسية أن ارتفعت الروح المعنوية لدى الجيش الأردني والشعب في الأردن، وفشل العدو في المحافظة على معنويات قواته التي تعودت أن ترى نفسها دائماً منتصرة، وبذلك تحطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر.
هـ. (خسائر الطرفين)
قواتنا الباسلة:
88 شهيداً، و108 جرحى، تدمير 13 دبابة و39 آلية مختلفة.
قوات العدو:
250 قتيلاً، و450 جريحاً، تدمير 88 آلية مختلفة، شملت 47 دبابة، و18 ناقلة، و24 سيارة مسلحة، و19 سيارة شحن، وإسقاط 7 طائرات مقاتلة.-(بترا)