السياحة الثقافية
بين مطرقة التنمية الاقتصادية وسندان الاستدامة
الأستاذ الدكتور هاني هياجنه
أستاذ في كلية الآثار والأنثروبولوجيا – جامعة اليرموك
السفير العلمي لمؤسسة ألكسندر في همبولت الألمانية لدى الأردن
خبير معتمد لدى اليونسكو في حقل التراث الثقافي
لا تقتصر وظيفة صناعة السياحة الثقافية بمفهومها الواسع على زيادة الدخل والإيرادات الاقتصادية، بل تتجاوزها لدعم الهوية الوطنية، وحفظ الثقافة والتراث الثقافي وصونه وإدارته، ودرء الآثار السلبية للسياحة الجماهيرية التقليدية، كما أصبحت تمثل نهجًا للتفاهم المتبادل والحوار والترابط، وتحقق وظيفة تعليمية توعوية تساعد الحكومات في التأثير على الرأي العام لكسب الدعم للأهداف الوطنية.
في معرض مساهمتي في الخطّة الشّاملة للثّقافة العربيّة وتحديثها، الصادرة عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) والتي اعتُمِدت بحلّتها الجديدة والمحدثة في نهاية العام المنصرم 2022، فقد آثرت أن تتضمن الخطة المحدّثة تحت باب “الهوية والموروث ومقتضيات الانخراط في مسار الحداثة”، ولأول مرة في تاريخ هذا المشروع الثقافي التنموي العربي، محوراً أساسيًا حول السياحة الثقافية في العالم العربي والآمال المعقودة عليها في التنمية، وذلك سعيًا لتضمينها نواحٍ جديدةً من مكونات التراث، ووضعها في مركز الاستراتيجيات العربية المعاصرة في مجال السياحة، ولإيماننا بأن التراث الثقافي، بشقيه المادي وغير المادي، شاهد على المهارات والدرايات البشرية التي تكيفت مع التاريخ، والظروف الاجتماعية والاقتصادية منذ بدء الخليقة وصولاً إلى وقتنا الحاضر.
على الرغم من ازدياد الاهتمام بالسياحة في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، إلا أنها مازالت من أقل مناطق السياحة نمواً على المستوى العالمي، وظلت حصّتها من السياحة الدولية من أدنى المعدلات عالمياً، علمًا بأن المنطقة العربية تتقاسم وجهات سياحية تلبي كافة أنماط السياحة، الطبيعية، والثقافية، والتراثية، والدينية. كما أنها موطن لمراكز تراثية وحضارية رائدة تربط جميع أنحاء العالم، وفيها آفاق مغرية للسياحة تشمل إضافة إلى ذلك، الرياضة، والتسوق، والرحلات البحرية، والمؤتمرات، والسياحة العلاجية وغيرها الكثير. ومع ذلك كله فقد فشلت المنطقة عموما من الاستفادة من مواردها لجني فوائد السياحة الدولية، على الرغم من قدرة هذا المصدر ليصبح بديلاً للاقتصادات القائمة على الطاقة، ووسيلة لتنويع الموارد. ولم تكن المنطقة العربية لتصل الى هذا المستوى المخيب للآمال، لولا مجموعة من العقبات التي تعيشها، وأبرزها الصراعات السياسية والتطرف الديني، والتوترات الجيوسياسية، وعدم الاستقرار، والتدخلات العسكرية، والمناخ السياسي المضطرب الذي أدى إلى تشكيل صورة سلبية للمنطقة في العديد من الأسواق المحتملة. فقد أصبحت المنطقة، وصورتها مسرحَ حربٍ واضعاً إيّاها في غمار تحديات كبيرة حالت دون تدفق طبيعي للسياح الدوليين إليها، لا سيما بالنظر إلى ما شهدته مواقع التراث الثقافي من استهداف وضعها في أتون الحرب. كما جرها “الربيع العربي” إلى عواقب وخيمة لا يحمد عقباها على صناعة السياحة، والأهم من ذلك على التراث الثقافي، كما تسبب تصعيد النزاعات في المنطقة عبر العقود الأخيرة، ولا يزال، في معاناة إنسانية مأساوية، كان له تأثير سلبي مباشر على الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية، وأصبح التراث الثقافي بحد ذاته موضع نزاع شديد في المنطقة، وهدفاً للإرهاب، فتفاقمت تحديات إدارة هذا التراث وتنمية السياحة المستدامة. وأدت الأحوال الدامية في بعض الدول إلى هجرات قسرية على نطاق واسع، كانت سبباً في فقدان الشعوب لفضاءاتها الثقافية الطبيعية والمكانية التي كانت تمارس فيها عناصر مختلفة من تراثها الثقافي، لا سيما تراثها الحي.
ومن جملة التحديات الأخرى في وجه السياحة المستدامة التدهور البيئي والاجتماعي الذي خلق حالة من عدم التوازن بين الاستهلاك الحكيم للبيئة وتنمية السياحة الثقافية من جهة، واستثمار التراث الثقافي من جهة أخرى؛ فعوامل تلوث الهواء، والاستغلال المفرط لقاعدة الموارد الطبيعية والتراثية في المنطقة، وبروز عمالة الأطفال، وإقصاء السكان المحليين من مشاريع التنمية السياحية في مناطقهم، ما هي إلا مؤشرات تحذيرية على تدهور البيئات الحاضنة للتراث الثقافي. يضاف الى ما سبق محدودية الوعي بالتنمية السياحية المتوازنة التي قادت إلى عدم القدرة على مناقشة أثر التهديدات المستقبلية على السكان المحليين والبيئات الحاضنة للتراث الثقافي، فضلاً عن نقص صارخ في تنفيذ التدابير والمؤشرات لرصد حالة الموارد والمواقع المعرضة للتنمية السياحية، وإن ننس، فلا ننسى ضعف التدابير المالية لحماية موارد التراث الثقافي والحفاظ عليها وتفسيرها وإدارتها، وعدم الالتفات بشكل كاف إلى دور المجتمعات المحلية ومتطلباتها وحقها في هذه الموارد، إذ قصّرت المخططات التنموية للسياحة الثقافية في مراعاة متطلبات المجتمعات المحلية في سياق التنمية السياحية الشاملة، ومشاطرتها النواتج بعدالة وتوازن، إذ يؤمَلُ من أي استراتيجية للسياحة الثقافية مراعاة احتياجات المجتمع بأسره، فيستحيل تحقيق مستقبل عادل للسياحة الثقافية في نواتجها الإنمائية دون مثل هذا الخط من التفكير، فهذا هو الأساس الوحيد لبقائها وتطورها في المستقبل، ولحفظ أصول التراث الثقافي وصونها.
ألقت تلك العوامل وغيرها بظلالها السلبية على السياحة الثقافية عموماً في كثير من الدول العربية، فأصبح من المحتوم انتهاج استراتيجيات تراعي قضايا مثل جودة الموارد البيئية، والتنوع البيولوجي، واحترام المجتمعات المحلية، وتطبيق مقاييس مبتكرة لتقييم ذلك. فعادة ما كان يتم التركيز على الفوائد الاقتصادية المباشرة وتقييمها باستخدام أنواع مختلفة من المتغيرات والمقاييس والمؤشرات، ولم يكن ثمة اعتبار لضمان التوازن بين القضايا البيئية والاجتماعية في إطار الخطط التنموية؛ ما يفضي إلى ضرورة اتباع السلطات الرسمية وأصحاب المصلحة الآخرين لنهج أكثر استدامة في تخطيط تنمية السياحة الثقافية التراثية.
أما بلدنا الأردن، واحة الأمن والأمان والاستقرار، بلد التنوع الثقافي، فيزخر بطيف هائل من الموارد الثقافية، بشقيها، المادية وغير المادية، فيتمثل الأول بمواقع التراث الثقافي، والمدن التاريخية، والمشاهد الطبيعية، والتراث المنقول (المجوهرات القديمة والرسومات والمنحوتات، والمنقوشات، والمخطوطات النادرة، والكتب، والأختام، والعملات، والنسيج، والمطرزات، والسجاد، إلخ)، والتراث الوثائقي، والتراث المغمور بالمياه. أما ثاني الموارد الثقافية، فيتجلى بالتراث الثقافي غير المادي، وهو ما أطلق عليه منذ ما يزيد على عقدين من الزمان بـ “التراث الثقافي غير المادي”، وعُرِّفَ في ميثاق اليونسكو 2003 بشأن صون التراث الثقاف غير المادي بأنه ” الممارسات والتقاليد والمعارف والمهارات – وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية – التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي.
صحيح أن بلدنا يواجه تحديات مختلفة، وخاصة ما يتصل منها بالبعد الاقتصادي والتنموي، إلا انه يتوفر على كفاءات بشرية، وخبرات كفؤة، ومراكز ومعاهد، وهيئات أكاديمية، وبنية مؤسسية صلبة قادرة على رسم استراتيجية لمواجهة كثير من التحديات التي ذُكِرت طائفةٌ منها سابقا، مما يخدم أهدافنا على الصعد الوطنية والدولية، إذ سيكون بمقدورنا، إذا ما تكاتفت الجهود على نحو منظم ومتكامل، تحقيق القدرة التنافسية العالمية للتراث والموارد الثقافية عبر تطوير المنتجات من أجل سياحة ثقافية مستدامة وتنمية اقتصادية معقولة، وإطلاق العنان للإمكانات الاقتصادية للتراث والموارد الثقافية، عبر تنمية مسؤولة، وزيادة الوعي بقدرة السياحة التراثية والثقافية في المساهمة في التماسك الاجتماعي، ودعم المواءمة والتكاملية بين الموارد التراثية والثقافية في السياحة السائدة، وتعزيز قيمة السياحة الثقافية وتأثيرها بشكل كامل، وذلك في ضوء ما تنطوي عليه المنتجات التراثية والسياحية الثقافية في الأردن من إمكانات اقتصادية هائلة، والعمل كذلك على تحسين تمثيل الموارد التراثية من خلال التفسيرات الواعية للأماكن السياحية لسلامة التراث الثقافي والمنتجات السياحية الثقافية وأصالتها، وضمان التمثيل الحقيقي لأصالة المنتج السياحي الثقافي وجودته؛ تاريخياً وحضارياً، فالأصالة بالنسبة للتراث الثقافي المادي قيمة أساسية في الحفاظ عليه وصونه، ولعل ذلك يتطلب التخطيط لتمايز المنتجات السياحية الثقافية. ولا ينفك عن النقطة الفائتة ضرورة إضافة التعبير عن الهوية المحلية في التمثيل السياحي، استناداً إلى الممتلكات التراثية المادية، والتي يمكن أن تمتد بشكل عام إلى “الثقافة الحية” والفضاء المكاني، باستخدام عناصر التراث والهوية المحلية، وتشجيع التنمية المواتية للمجتمع المحلي من حيث حماية نمط حياته، وقيمته، واقتصاده المحلي. وفي ضوء الفرصة السانحة للسياحة التي يمكن لبلدنا استثمارها بكل كفاءة واقتدار، سواء في الإيرادات أو في التنمية الثقافية؛ فمن المستحسن وجود خطة عملية وعادلة ومستدامة على المدى الطويل، على أن تشمل هذه الخطة أيضًا القطاعات المعنية كافة، نحو علماء الآثار، والمهندسين المعماريين، ومخططي المدن، وإخصائيي الحفظ، وممثلي المجتمع، ووكلاء السياحة، واقتصاديي التراث وغيرهم. وفي عصرنا الحاضر تمثل تكنولوجيا المعلومات والاتصال في عالمنا الرقمي عاملا أساسيا وحيويًا لتلبية توقعات السياحة الثقافية والتراث الثقافي، إذ يعطي هذا المجال التراث الثقافي فرصة للمؤسسة الثقافية لجذب المزيد من المستهلكين، والتحول إلى “اقتصاد ثقافي” جديد يتميز بإمكانية الوصول إلى خدمة يحركها المستخدم، ويساهم فيها التراث الثقافي الرقمي في تسويق المؤسسات الثقافية، ما يمكّنها من تقديم القيمة التي يسعى إليها المستهلكون، وبناء العلاقات بين المستهلكين والمؤسسات، مما يسهل على الشباب اختبار الموارد الثقافية، بما فيها موارد التراث الثقافي.
أما إشراك المجتمع المحلي فمسألة هامة في تطوير السياسات والخطط السياحية؛ بالإضافة إلى احترام وتعزيز التراث التاريخي، والثقافة المحلية، والتقاليد، وتميُّز المجتمعات المضيفة، والحفاظ على جودة المشاهد الطبيعية الحضرية والريفية والبدوية وتعزيزها، وتجنب التدهور البيئي مادياً وبصرياً. فمشاركة المجتمعات في أي مشروع تنموي ستنطوي على خلق الإحساس بالانتماء إلى الوجهة الثقافية، وتميزها، وتنميتها، والاستفادة منها، والحفاظ على أصالتها، ومن شأنه تعضيد الشعور بالهوية المحلية، فهي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للأنشطة السياحية أن تكون مستدامة ثقافياً، وبالتالي اقتصادياً.