“جبع” تدعو للراحل توفيق فاخوري!!

عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب   
تدفق الماء بعد طول انقطاع عن المنطقة في مدينة “بلدة جبع” في فلسطين، وقد توضأ المصلون ورفعوا ايديهم بعد الصلاة يدعون لصاحب المكرمة التي حملت لهم الماء ووفرته للبلدة ولقرى مجاورة لشربهم وحتى زراعتهم واسباب حياتهم الاخرى..
جبع التي جرى حلّ مشكلة المياه المزمنة فيها بمبادرة من رجل الاعمال الناجح سامر فاخوري الذي رغم ظروفه شهد لحظة تدفق الماء وافتتح المشروع كصدقة جارية عن روح والده الراحل توفيق فاخوري، وقد بلغت كلفته اكثر من 800 الف دينار، فلماذا جبع؟ ولماذا الماء؟ ولماذا توفيق فاخوري؟
جبع مدينة تتربع على طرف سهل بالقرب من جنين، وتعلن عن نفسها من خلال مرور الشارع الرئيسي الموصل بجوارها، حيث يرى المارة منه مئذنة جامعها الكبير الشهير والبيوت الفارهة من القرميد، وقد بناها مغتربون ومع ذلك ظلت المدينة تشهد فقرا في الماء وسوء توزيع وادارة، حتى جاءها من ابنائها من مدّها به يجعل من الماء كما قال المولى “كل شيء حيّا” ..
اما الراحل توفيق فاخوري فقد كان في الثلاثينيات من عمره حين ضاقت به جبع، لقلة العمل وصعوبة العيش، فاختار ان يهاجر او يغادر، كانت والدته اكثر المطلعين على سرّه ونشاطه وقدراته، وقررت ان تقف مع خياره وان تدعمه، لكن العين بصيرة واليد قصيرة..
وقال لي توفيق فاخوري “ابو شاكر” رحمه الله قبل رحيله حين عرضت عليه كتابة مذكراته فأمهلني .. قال: لم تكن امي تملك من المال شيئا ولكنها رأت ان تستلف لي من صديقاتها ومن الجيران، وبدأت صبيحة يوم جمعة تزور بيوتهم لهذا الغرض واستطاعت خلال ثلاثة ايام ان تجمع 87 دينارا اردنيا، كان ذلك في الخمسينيات حيث قسوة الحياة وشبح العوز..
كان الكثير من ابناء البلدة قد فلّوا منها الى الكويت والسعودية في تلك الفترة القاسية من الخمسينيات التي اعقبت النكبة، وقد كتب عن قسوتها الشهيد غسان كنفاني في رواية “رجال تحت الشمس” وذلك عن صعوبة الدخول الى الكويت، كما كتب عن الحالة في السعودية انذك الروائي يحيى يخلف في رواية “نجران تحت الصفر” واخرون، ولكن توفيق فاخوري كتب روايته الصامتة بالعمل في قسوة الحياة على الارض السعودية حين اختار العمل في الميدان في الشارع في الصحراء والحرارة في شق الطرق وبناء الاطاريف..
رحل توفيق الى السعودية وبدأ عاملا فردا بسيطا قبل ان يتحول الى مقاول من الحجم الصغير، ثم بدأ يكبر وقد أمضى عدة عقود من العمل وتعرف على الكثير ممن يشبهون حالته، أو ممن لديهم اموالا وفرصا أوسع، ولكنه صمم ان لا يعود الا بثروة يستطيع ان يبني فيها مشروعه االخاص، وقد فعل وعاد في الثمانينيات الى عمان، وبدأ يستثمر في البنوك واقام شركة الاقبال وشركات اخرى كالطباعة وغيرها، واستطاع ان يستثمر في علاقاته وان يشتري ويبيع، وان يلتقط الكثير من الفرص حتى غدى معروفا ويشار الية بالبنان.. وكان اخر ابداعاته وهو يستقبل الثمانينيات من العمر بناء فندق ريتز كارتون على الدوار الخامس حيث اقامه معتمدا على ماله..
حين لمع اسمه كنت قد دخلت عالم الصحافة وكنت ارغب ان استمع لمثل هذه القصة التي تحمل نجاح رجل اعمال عائد، فقررت ان ازوره في مكتبه في جبل اللويبدة قرب مسجد كلية الشريعة وقد اعجبت به وباصراره واقدامه على الحياة، وتوثقت علاقتي به وكتبت شيئا عن تجربته العصامية التي لم يكن يخفيها، وقادتني علاقتي به للتعرف على ابنائه الثلاثة شاكر الذي عمل بنجاح في بنك الاردن وما زال وسامر الذي عمل في شركة الاقبال حيث صناعة الدخان والسجائر والمعسل، ووليد الذي عمل في بنك اسلامي في الضفة الغربية ثم انتقل للعمل في اسبانيا، وكانت لديه ميول رياضية وخاصة في مجال سباقات الخيل..
شكل اولاده فريقا ناجحا تحت اشرافه قبل ان ينطلقوا كل بمفرده ومجاله، وظل توفيق فاخوري -رحمه الله- يعمل الى اخر ساعة في حياته، لم يفارق مكتبه ولم يقبل النصائح ان يستسلم ويتقاعد ، وكثيرا ما كان ينتقل ما بين المكتب والمستشفى الى ان رحل، ولم يقدر له ان ينتقل للعلاج في الولايات المتحدة رغم حجزه في الطائرة وتعيين يوم سفره ولكنه توفي قبل يومين من ذلك..
كنت اريد ان ادخر الكتابة عنه لاكتب مذكراته، ولكن الصدقة الجارية التي اقامها سامر فاخوري باسم والده نطقت وعبرت عن نفسها في بلدة توفيق ومسقط رأسه..
في جبع .. لأن بني آدم إن رحل انقطع عمله إلّا من ثلاث منها ولد صالح يدعو له، وله في هذا اكثر من ولد وحفيد .. وصدقة جارية وها هي صدقة جبع التي ينافس بها وفي مجالها ابناء جبع المغتربين ومنهم ابناء البداد المميزين”د. فطين وزايد” اصحاب اليد البيضاء الذين يشهد لهم رئيس بلدية جبع محمد الذي دشن مشروع المياه بحضور الوزير الفلسطيني محمد الصالح..
جبع عرفت الكثيرين من ابنائها ممن ظلوا على صلة بهم، وكانت موقع اعتزازهم فمنهم الوزير الاسبق حازم قشوع امين عام حزب الرسالة، ومنها ابناء الحموري فوزي مدير المستشفى التخصصي واخوانه، وايضا ابناء البداد في الاردن والخارج..
جبع اليوم تلهج وتترحم على ابنها البار توفيق فاخوري الذي ناب عنه سامر في جعل الصدقة الجارية حيّة ومثمرة حين قدم اغلى السلع والهدايا وهو الماء.. وقد لفت انتباهي لهذا الانجاز الصديق الدكتور فطين البداد الذي احتفى بذلك..
شكرا يا سامر والرحمة والمغفرة لك يا توفيق فاخوري.. والتحية لأهل جبع الصامدين في بلدتهم حتى يوم الحرية..

 

Related posts

طهران لا “تسعى” للتصعيد… 37 بلدة بجنوب لبنان دمرتها إسرائيل

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

“النزاهة” تستضيف وفداً أكاديميّاً من جامعة القدس الفلسطينية