رسالة حياة من أجل مستقبل حر منيب رشيد المصري

كتب : منيب رشيد المصري

الحياة رحلة قصيرة نمضي بها ، وقصة نكتبها لتبقى ذكرى ، ومحطة نعيشها لننتقل من بعدها إلى ديار الحق ، ورسالة ننثرها ونحاول أن نبلغ من خلالها معاني الخير والعطاء والقيم الإنسانية الرفيعة ، مهما طالت فهي قصيرة ومهما أعطت فهو قليل، قد تكون طويلة ولكن لها نهاية تضيئها ابتسامة وتطفئ بريقها دمعة وبين هذه وتلك سنغادرها يوما ونسأل الله حسن الختام.
أجمل ما في هذه الحياة أن تعيش لغيرك لوطنك ولأمتك وللإنسانية جمعاء ، فحين نعيش لأنفسنا تبدو الحياة مملة وضئيلة ، أما عندما نعيش لفكرة فإن الحياة تبدأ من حيث بدأت الإنسانية ولا تنتهي بالموت بل تستمر حتى يرث الله الأرض وما عليها ، فبالعطاء تخلد الذكرى وتستمر الفكرة وينمو الأثر الطيب ، وينتشر الخير النافع .
لهذا لم أخف يوما من الموت، وقررت أن أكون مغامرا مؤمنا بقضاء الله وقدره فشاءت الأقدار أن أموت أكثر من مرة وأن أعود للحياة في كل مرة أقوى وأكثر عنفوانا . وما ذلك إلا فضل من الله يستحق الشكر والحمد وبمساندة من زوجتي المرحومة إنجلا.
الموتة الأولى حين كان عمري أربعة عشرة عاما وأصبت حينها برصاصة في فخدي الأيسر حين كنت مشاركا بالاحتجاجات ضد قوات الانتداب ، والموتة الثانية كانت حين تهت في صحراء الربع الخالي لأيام عديدة اضطررت خلالها شرب البول لأبقى على قيد الحياة، والموتة الثالثة حين قمت بتهريب الشهيد ياسر عرفات من الأردن إلى سوريا تحت وابل الرصاص وكان في ذلك الوقت مطاردا ومستهدفا ، والموتة الرابعة حين هربت هاني الحسن إلى العراق، والموتة الخامسة حين خالفت قرار الأطباء حيث كان الصمام الرئيس في قلبي مغلقا بشكل كامل، وسافرت لأجل القدس إلى جدة لتوقيع اتفاقية تأسيس صندوق تمكين القدس وعدت لإجراء عملية القلب المفتوح والتي استمرت لأكثر من عشر ساعات في مستشفى الجامعة الأميريكية في بيروت ، أما الموتة السادسة فقد كانت قبل أسابيع قليلة حين تعرضت لحادث تسبب بكسر في حوضي.
تجارب ليست بالسهلة، ولكنها في كل مرة كانت بالنسبة لي إنطلاقة جديدة تزيدني إيمانا وعطاء وحبا للحياة ، حبا للحياة ليس لأجل الحياة وإنما لأجل العائلة ولأجل فلسطين لأجل العروبة ولأجل الإنسانية ولأجل السلام، وفي التجربة الأخيرة التي عشت من خلالها ظروفا صعبة للغاية ، رحلت فيها إلى عالم آخر لا أعرف فيه من أنا وأين أنا ، وظننت ومن حولي بأنها النهاية ، فكانت حكمة الله وقدرته أن أتعافى فقررت أن أكتب عن هذه التجربة وخلاصة ما يقارب تسعة عقود من الحياة ، دون أن أشعر بأن الموت قريب بل وأنا مؤمن بأن الله منحني حياة جديدة ، سأكتب حروفها بعزيمة وهمة عالية لأحقق ما أحلم بتحقيقه ولأعتبر هذه الهدية الربانية مرحلة جديدة من مراحل حياتي والتي لا بد وأن تكون مختلفة تماما عن المراحل السابقة ، مرحلة أبلغ بها الرسالة ، وأتمم أداء الأمانة على أكمل وجه.
أول الوصايا لعائلتي : من لا خير فيه للوطن لا خير فيه لنفسه و لأهله
منذ طفولتي عشت حالما بصناعة تاريخ لأجل فلسطين ، وأن أصنع مالا وجاها أدافع من خلالهما عن قضيتي ووطني ، خاصة مع تأثري بوعد بلفور المشؤوم وما لحق بنا من ظلم وعذاب ، فتعلمت وعملت واجتهدت وسافرت وعدت للمساهمة في بناء الوطن ، وأسست عام 1970 مؤسسة منيب وانجلا المصري التي نثرت بذور الخير في أرجاء فلسطين والوطن العربي بل وساهمت بتأسيس كبرى المؤسسات التنموية في فلسطين ، وهنا أقول لعائلتي هذه المؤسسة هي رسالة العائلة عبر الاجيال المتتابعة، وقد حرصت على إعداد خطة لهذه المؤسسة مدتها ألف عام ، وعليه فإنني أوصيكم بحماية هذا الإرث العائلي الذي نساهم من خلاله في بناء فلسطين وتمكين شعبنا الفلسطيني ، فهذا هو السر الذي سيجمعكم دائما على المحبة والخير ولن يفرق صفوفكم.
وأبرز منجزات العائلة هو بيت فلسطين الذي رسمته في مخيلتي منذ ان كنت طالبا في الولايات المتحدة الاميريكية ، وحلمت به ليكون معلما حضاريا يجمع فلسطين وتفاصيلها الجغرافية والتاريخية ، وجسر فلسطين إلى العالم. معلما مميزا ومزارا لكل فلسطيني وزائر لفلسطين، وازدادت أهميته بما عثر عليه من بقايا دير بيزنطي أسفل المنزل ، واليوم نعمل ليكون منارة علمية وثقافية وحضارية تضيء سماء فلسطين بالشراكة مع الجامعة التي أحب جامعة القدس والتي أتشرف بعضوية مجلس امناءها ..
ثاني الوصايا : حفيدي منيب وجع الحياة وهم الممات
منيب ، حفيدي البطل ذلك الشاب اليافع الوسيم الذي تأملت تفاصيل حياته منذ صغره، ورأيت شبابي بعيونه اللامعة ، ومنحني المزيد من الفخر حين انطلق مع زملاءه وهم غزل لإحياء ذكرى النكبة والتأكيد على حق العودة ، ومضوا عائدين إلى فلسطين عبر الحدود اللبنانية ، فانتظرته رصاصات الغدر والإرهاب والحقد ، فغدا جريحا من جرحى الوطن فقد كليته وطحاله وكسر عموده الفقري ولكنه لم يفقد عزيمته وإرادته رغم ألمه ووجعه اليومي . هذا الألم الذي أتعبني وأرهقني ويجعلني أصاب بالخجل والضعف كلما نظرت إلى عينيه .
قصة منيب هي قصة الالاف من شبابنا وأطفالنا ، ومنيب الذي أقصده هو النموذج لكثير من أبطال فلسطين ، الواجب رعايتهم وحمايتهم وتأمين مستقبلهم وعدم نسيان تضحياتهم ، باختصار علينا بالوفاء لهم ، الوفاء للوطن ولكل من ضحى من أجله ، الوفاء للوطن ولكل مكتسباتنا الوطنية ، وعلينا أن نتذكر دائما بأن الوفاء أساس البقاء.
وهنا اود تحية أسرى فلسطين وتحديدا البطل خليل عواودة الذي انتصر بإرادته على جبروت الاحتلال وأسرى نفق الحرية زكريا زبيدي ، محمود العارضة، أيهم كممجي، محمد العارضة، مناضل نفيعات ، يعقوب القادري، الذين أثبتوا للعالم بأسره بأن الشعب الفلسطيني قادر على صنع المعجزات.
ثالث الوصايا : فلسطين وصية الشهداء والأسرى والجرحى
فلسطين الأرض المباركة ، والوطن الذي ضحى من أجله الالاف من الشهداء والجرحى والأسرى ، ضحوا لأجل دولة مستقلة عاصمتها القدس ، ضحوا لأجل الحرية والكرامة ، ضحوا لأجل الحق والعدالة ، ضحوا لأجل المستقبل المشرق ، ضحوا من أجل حق العودة ، ضحوا لأجل الأجيال المتعاقبة ، ضحوا لأجل المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة ، ضحوا لأجل أبنائنا وأحفادنا وواجبنا أن نمضي على خطاهم وثوابتهم حتى ننتزع كافة حقوقنا ونحرر أرضنا .
لهذا فإن الوحدة مقدسة والإنقسام عار ، المقاومة حق والمساومة ذل ، البناء واجب والهدم خيانة ، الأمانة قرار والفساد دمار، الوفاء عهد والتخاذل جريمة، الانتماء نهج والعمالة كفر، العلم رسالة والجهل ضياع.
ولنتذكر دائما ، نحن أصحاب أعدل قضية ، وأقدس أرض ، وأنبل فكرة ، وأبهى رسالة ، سلاحنا وحدتنا ، وقصتنا السردية ، وإرادتنا الفولاذية ، وإيماننا بالنصر. ظلمنا العالم بأسره وتآمر علينا منذ وعد بلفور المشؤوم ، ولكن سيبقى الحق يعلو ولا يعلى عليه . ولن يضيع حق وراءه مطالب.
ولأجل ذلك لا بد من استثمار مبادرة الجزائر لإنهاء الانقسام وبناء شراكة سياسية كاملة بين الكل الفلسطيني، ضمن استراتيجية وطنية نضالية شاملة لدحر الاحتلال. والجزائر هي الاكثر قدرة بتاريخها وحبها لفلسطين بأن تعيدنا إلى مسار الوحدة والتحرر. وكلنا ثقة بالأخ الرئيس محمود عباس أبو مازن وقدرته على توحيد شعبنا والنهوض من الجديد فقد أثبت بكل المواقف ثباته على الثوابت الوطنية وصموده بوجه الضغوط والمؤامرات على خطى الشهيد القائد ياسر عرفات.
رابع الوصايا : القدس أمانة في أعناقنا
القدس هي شرفنا وشرف الأمة بأسرها، هي عاصمتنا وعاصمة أحرار العالم ، هي مدينتنا ومدينة السلام العالمي، هي البداية والنهاية وأصل الحكاية ، تواجه أشرس هجمة صهيونية عالمية، وعلينا أن ندرك بأن معركتنا تبدأ وتنهي بالقدس ولأجل القدس فلا كرامة ولا وطن بدون القدس ، وواجبنا أن نحميها بأروحنا وأموالنا وسواعدنا .
لقد عشت مخلصا للقدس وحرصت وسأحرص أن أبذل كل ما بوسعي لأجلها ، ولأجل استدامة مشاريعنا الخيرية والتنموية في القدس من خلال صندوق ووقفية القدس وصندوق تمكين القدس وبأي جهد مطلوب حتى تحرير القدس. وهي وصيتي لكل فلسطيني وعربي ومسلم وحر ، ان لا تبخلوا على القدس باموالكم وأرواحكم وجهودكم وعطائكم. رسالتي بأن القدس ليست للفلسطينيين وحدهم ، واستمرار الاحتلال عار على البشرية ، والتطبيع خيانة للدين والوطن والأخلاق، وجريمة بحق كل ضحية من الأطفال والنساء والعزل من من رووا أرض فلسطين بدمائهم الزكية .
خامس الوصايا : هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل
العلم أساس تقدم الأمم ونهضتها وتقدمها، والعمل شرط لهذا التقدم ، والمثابرة والإرادة سر النجاح والإنجاز ، فلنحرص على الارتقاء بأنفسنا بالعلم والأخلاق، وأن نبذل كل ما نستطيع بالعمل المتقن ،وأساس العلم والعمل هو خدمة الوطن وتسخير الامكانيات كافة لأجل ذلك ، فلا قيمة للعلم والعمل بدون صناعة التغيير وحسن التأثير .
الرسالة أمانة والامانة مسؤولية ، فلو أدرك كل فرد منا سبب وجوده وعرف رسالته والتزم بها لصنع السلام في محيطه والتأثير ، فالذين يدركون رسالاتهم الشخصية يحيون حياة عظيمة والذين لا يدركون يحيون ويموتون في حياء وصمت.

Related posts

الضيف «اللي ما يجيب»* الحيف بشار جرار

بعد 400 يوم.. المخطوفون ما يزالون بغزة* ريفكا نارييه بن شاحر

خطاب ولي العهد وتحديات المناخ ( كل روحٍ تستحقُ القتال لأجلها )* النائب محمد يحيى المحارمة