«من الكسارة إلى الوزارة».. كتاب مدهش ويستفزك لقراءته

الدكتور محمد ناجي عمايرة

توقفت طويلا عند كتاب الزميل الصديق محمد داودية: (من الكسارة إلى الوزارة).

إن أول ما لفت انتباهي هو العنوان.

كنت قرأت عنه وقرأت بعض فصوله التي نشرت في الدستور العزيزة أولا.

فالعنوان لافت وقد يذهب بك الظن أول وهلة إلى أن فيه استعلاء على المهن اليدوية والكدح والكادحين. لكن هذا سرعان ما يزول عند الدخول في فصول الكتاب فتجد انه يعلي من شأن التجربة التي عاينها فعليا في مطلع حياته ذلك الشاب الذي ذاق مرارة اليتم وشظف العيش وقسوة الطبيعة الصحراوية .

لم يولد محمد داودية وفي فمه ملعقة من ذهب، بل عانى أصعب ظروف الحرمان المادي والمعنوي: غياب أبيه، وحرمانه من نداء (بابا) وافتقاد كثير من مقومات الحياة.

لكن محمد داودية لم يكن وحيدا في ذلك بل إن أترابا له عديدين واجهوا تلك المعيشة الصعبة في تلك الفترة من أواخر الأربعينات والخمسينات في المناطق النائية الاشد فقرا والأكثر حاجة للخدمات الأساسية، من التعليم والطرق والكهرباء ومستلزمات الحياة الحديثة.

والملاحظة الثانية التي تلفت الانتباه هي جرأة الكاتب في تقديم تلك المرحلة الصعبة من حياته كما هي ببساطة ووضوح وبلا رتوش. وهو ما ننظر إليه بكثير من الاحترام والتقدير، فهو يذكرنا نحن جيل محمد داودية ،بمرحلة عشناها بتفاصيل متشابهة، وإن لم تكن متطابقة، حتى اولئك الذين كانوا يعيشون في العاصمة والمدن القريبة منها.

ولعل قسوة هذه الحياة المادية والمعنوية هي التي صنعت من الكاتب وأبناء جيله من الشباب في تلك المرحلة، رجالا اشداء جادين اكفياء قادرين على تحمل مصاعب الحياة واداء واجباتهم بإخلاص وإتقان تجاه وطنهم وشعبهم وامتهم.

ليس الامر بهذه البساطة وليس من اليسير أن تواجه كل ذلك وأنت تفتقد ما يعينك ومن يعينك عليه ويأخذ بيديك فتضطر إلى العمل الشاق في الكسارات وتفتيت الصخور لكي تحصل على مقومات العيش الأولية.

وهذا سر التعاطف مع صاحب هذه السيرة والشغف والإعجاب بالكتاب.

قرأت قبل كتاب داودية كثيرا من الكتب التي تشتمل على سيرة الحياة أو المذكرات السياسية أو الذكريات.. لكن هذا الكتاب جاء مدهشا في مجمله وفي تفاصيله وحرارة لغته ووضوح معانيه وجرأته الاقتحامية، ولا استغرب هذا فأنا من زملاء الكاتب في مهنة الصحافة منذ ثمانينات القرن الماضي على الاقل، ومن الطبقة الاجتماعية ذاتها التي يعكس الكتاب بصدق كاشف حياتها ومعاناتها وآمالها وطموحاتها .

ولا اخفي أن هذا البعد الطبقي والاجتماعي هو من دواعي الإعجاب بهذا الكتاب. دون أن نلغي اهتمامنا بتجارب مسؤولين كبار عرضوها في مذكراتهم. ودون أن نتجاهل دور الطبقات الأخرى في المجتمع والدولة والحياة.

ومما يلفت القارئ في كتاب «من الكسارة إلى الوزارة «هو هذه العصامية التي جعلت منه بعد تلك المعاناة في مرحلة الطفولة والمراهقة، معلما ومربيا وصحفيا ملتزما، ومديرا للإعلام في الديوان الملكي ثم نائبا ووزيرا لثلاث مرات ورئيسا لمجلس إدارة إحدى اهم صحفنا الأردنية، اقصد الدستور الغراء.

رحلة العشرة آلاف ميل التي بدأت بخطوات، تستحق أن تروى، وقد جاءت الرواية صادقة أمينة وبلغة صحفية واضحة و مشرقة.

ومما يثير الاهتمام ويستدعي الإشارة ان الكتاب يروي حكاية انتماء المؤلف السياسي، وصلته العضوية بالمعارضة السرية والعلنية والمواقف الصعبة التي واجهها من عزل من العمل، ومنع من الكتابة ومن السفر، وتوقيف واضطراره إلى الاختفاء فترة طويلة عن انظار أجهزة الأمن.

ومن الكتاب نقف على مسيرة الحراك والتغيير الاجتماعي في المملكة وما يمثله من تطور وتقدم، وما احتاجه من تضحيات وجهود، وما انتهينا إليه من منجزات، وما أصاب المسيرة من عثرات، أو اعتورها من سلبيات.

ولعل موقف الكاتب من المرأة بعامة أما وأختا وزوجة وصديقة، ورفيقة عمل سياسي، يعكس رؤية تقدمية ووعيا فكريا، يجمعه بطيف واسع من الأجيال التي سبقته وجيله، وما تلاه، من الذين آمنوا بالحرية والتطوير والتعددية والديموقراطية، وحقوق الإنسان وكرامته.

ولعلي اختم بالإشارة إلى مسالة الموقف والالتزام الوطني والعروبي، وما أراد الكاتب ان يجلوه ويذكّر به، ويرسخه في اذهان الأجيال الجديدة، من دور الأردن وشعبه وقيادته السياسية وجيشه الباسل في الدفاع عن قضايانا الوطنية والعربية وفي مقدمتها قضية القدس وفلسطين، وهو ما شهد به الاعداء وأقر به الخصوم السياسيون في مختلف مراحل الصراع مع العدو الصهيوني.

وكما وصفت الشاعرة الراحلة فدوى طوقان سيرة حياتها وعنونت مذكراتها بأنها (رحلة جبلية رحلة صعبة) فإن كتاب داودية يعكس بوضوح سيرة حياته الصعبة وطموحه البعيد وقد تحقق له الكثير من اهدافه.

واخيرا لقد توقفت عند الشكل الفني للكتاب وكيف يمكن تصنيفه: هل هو رواية أو سيرة حياة ام ريبورتاج أم هو كل ذلك. وهو ما أترك الحديث عنه للنقاد الأكثر اختصاصا.

على اني أود التاكيد أن الكتاب يبقى مدهشا ولافتا، يستفزك إلى قراءته غير مرة.

إنه يستحق القراءة بامتياز.

Related posts

صدور كتاب الأردن وحرب السويس 1956 للباحثة الأردنية الدكتورة سهيلا الشلبي

وزير الثقافة يفتتح المعرض التشكيلي “لوحة ترسم فرحة” دعما لأطفال غزة

قعوار افتتحت معرضها الشخصي “العصر الذهبي”