في الثامن من آذار… بين حيفا ومخيم جنين /منيب رشيد المصري

عندما وقف بن غوريون عام 1948 يشاهد جموع سكان حيفا مجتمعين على رصيف الميناء يستعدون لرحلتهم إلى المجهول الذي سمي لاحقا مخيماً، قال حينها هذا أجمل مشهد رأيته في حياتي، وإن دلت هذه الجملة على شيء فإنها حتماً تدلل على حجم العنصرية والحقد واللاإنسانية المتأصلة في الفكر الصهيوني الاستعلائي الاستعماري الاحلالي، والذي ظهر حلياً من خلال التقرير الذي نشرته منظمة أمنستي قبل عدة أسابيع ووصلت به إلى استنتاجات مبنية على وقائع ودلائل تؤكد على أن هذه الدولة التي قامت على أنقاض المجتمع الفلسطيني هي دولة فصل عنصري “ابرتهايد”.
هذا المجهول الذي غادرت اليه جموع اللاجئين والذي سمي لاحقا بمخيم أصبح مخزون الثروة التي انطلقت في وجه العنصرية والظلم والاقتلاع، لا بل في وجه الإرهاب الذي ما زالت دولة الاحتلال ومن خلفها حليفتها بريطانيا صاحبة إعلان بلفور وأيضا الولايات المتحدة الأمريكية تمارسه في أبشع صوره بحق الشعب الفلسطيني، هذا المخيم الذي حتماً سيبقى وقود الثورة ورافعتها الرئيسية، وحاضنة لكل الشرفاء الذين ولدوا من رحم المعاناة، وتربوا على أيدي أجمل الامهات، الصابرات المناضلات المعطاءات، اللواتي لا زلن يحملن نعوش أبنائهم محتسباتهم شهداء على طريق الحرية والعودة والدولة.
شاءت الأقدار أن أزور مخيم جنين وأشاهد بأم عيني ليس المأساة الفلسطينية بل أشاهد وأعيش البطولات الفلسطينية في هذا المخيم الذي يشكل نموذجاً للوحدة الوطنية والانتماء للوطن والقضية، فحيثما أدرت وجهك رأيت صورة لشهيد أو لشهيدة لأسير أو لأسيرة وهذا هو حال ليس فقط هذا المخيم بل هو حال الوطن بأكمله، لذلك حقاً أقول وأردد ما قاله القائد العروبي جمال عبد الناصر “ما ضاع حق وراءه مطالب”، فسيبقى النضال الوطني ضد الاحتلال والإرهاب ما دام المخيم ينجب أطفالاً يحبون الحياة ويحبون أمهاتهم وجداتهم الذين أحبوا حيفا وسيقفون يوماً ما على شاطئها ويغنون للبحر والمراكب، ويردون على حقد بن غوريون وجرائمه بأجمل رقصة للحياة، فنحن على راي شاعرنا محمود درويش “نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا”.
المفارقة أنه وبعد أن زرت مخيم جنين واحتفلت مع نساءه وأطفاله وشيبه وشبابه بيوم المرأة العالمي انتقلت إلى حيفا حيث وقف الحاقد بن غوريون وعصاباته، وجيش الانتداب البريطاني يشاهدون جموع سكان حيفا يقفون ما بين الشاحنات والقوارب هرباً من المذابح التي ترتكب في حقهم على امتداد فلسطين، ففكرت وقلت لنفسي لماذا لم تتحرك الانسانية وقتها لحماية هؤلاء السكان المدنيين من بطش العصابات الصهيونية المدعومة من جيش الانتداب البريطاني، وكانت الاجابة في ذهني حاضرة وهي أن مصالح الحركة الصهيونية التقت مع مصالح الدول الامبريالية الاستعمارية وخلقت هذا الكيان في خاصرة العرب لكي تبقى هذه الدول مسيطرة على مقدرات الشعوب العربية.
لا أريد الخوض كثيرا في التاريخ لذكر أسباب النكبة، ولكن الشيء الوحيد الثابت في حركة التاريخ هو أن الاحتلال إلى زوال، وأن حيفا بجمالها ستعود إلى سكان مخيم جنين هذه حقيقة أنا شخصياً مؤمن بها وزاد ايماني عندما رأيت نسوة وصبابا المخيم يربون أبنائهم على الوطنية والعطاء ويسردون لهم القصص عن جمال حيفا وجمال حفيدات جدنا الأول كنعان، رأيت في المخيم أبناء وبنات الشهداء يحملون الراية ويرعون الامل رأيت ما فعله الاحتلال من جرائم بحق طفولتهم رأيت العزة والفرح في وجوههم وخلف هذه الوجوه الحزن والخوف من المجهول. رأيت أطفالاً يحملون الأمل صور أباءهم وأقاربهم الشهداء ويقولون “على دربهم سائرون” نحن سندحر هذا الإرهاب ومن يقف معه، فكيف لهذا الشعب أن يُهزم، وكيف لنا أن ننسى ما حل بنا من ظلم.
عدت من حيفا إلى نابلس عبر الحاجز العسكري المسمى “معبر الجلمة” لا بل هو معبر الذل ومعبر العنصرية والفاشية بحق ليس فقط الفلسطينيين لا بل بحق الإنسانية، فقد شاهدت عنصرية ونازية الاحتلال بأبشع صورها، مجموعة جنود حاقدين يمارسون هواياتهم العنصرية بحق العمال الفلسطينيين العائدين من أعمالهم في الداخل المحتل، وكيف صًمم الحاجز لكي يحشرهم بطريقة حاطة من الكرامة الإنسانية، في محاولة لكسر الإرادة، وهذا ما حاولوا فعلا ممارسته معي حينما أردت قطع الحاجز، حينما تعاملت معي إحدى مجندات الاحتلال بطريقة عنصرية حاقدة ودخلت معها في نقاش انتهى بشتيمة لها ولاحتلالها العنصري.
قد يكون الوقت الآن يوحي بنوع من التراجع العام، ولكن هذا لا يعني في أي حال من الأحوال موات القضية، لا بل هي استراحة محارب، يمكن أيضا أن نفتح ساحات نضال أخرى مساندة وأساسية مثل النضال القانوني، فقضيتنا ليس فقط قضية عادلة بكل المقاييس بل هي قضية أخلاقية تضع كل العالم على المحك فيما يتعلق بتمسكهم ليس فقط بالقانون الدولي والشرعية الدولية بل أيضا بمدى أخلاقية تصرفاتهم وافعالهم تجاه المآسي التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من (74) عاما، ولا أريد هنا المقارنة بين ما يحصل مع الشعب الفلسطيني منذ العام 1948، وما يحصل الآن من ردة فعل المجتمع الدولي تجاه أوكرانيا مع التأكيد أننا ضد المآسي بحق الشعوب مهما كانت جنسيتها.
ساحة النضال القانوني مهمة بالتوازي مع كل ساحات النضال التي يجيزها لنا القانون الدولي، وهذا يدفعنا للقول بأن تقرير منظمة أمنستي مهم في البدء برفع دعوى قضائية أمام المحاكم الدولية المختصة بحكم أن الفصل العنصري الذي تمارسه إسرائيل على الشعب الفلسطيني على امتداد فلسطين التاريخية هي جريمة ضد الإنسانية يجب معاقبة إسرائيل عليها، ويجب العمل على مراكمة القضايا أمام المحاكم الوطنية والدولية ضد دولة الاحتلال كنوع من النضال المساند والمكمل كما فعلنا في قضية إعلان بلفور الذي سنحاكم حكومة بريطانيا أمام القضاء البريطاني على هذا الإعلان العنصري.
شاهدت منزل بن غوريون في حيفا، والذي كان يملكه فلسطيني لا زال أبناؤه وأحفاده يناضلون من أجل العودة وقلت في نفسي مرة أخرى بأن عهد الشهيد القائد الرئيس ياسر عرفات والشهيد الشيخ المجاهد أحمد ياسين والشهيد القائد فتحي الشقاقي والقائد الشهيد أبو علي مصطفى وغيرهم الكثير الكثير من الشهداء والشهيدات، هذا العهد هو دين في رقبتي وسأعمل ما حييت لأوفي هذا الدين، فالذين قدموا أرواحهم في سبيل القضية، والذين أفنوا زهرة شبابهم في سجون الاحتلال، وعذابات الجرحى، وصبر الأمهات والأخوات والأطفال تستحق من كل شريف أن يسير على درب الحرية والعودة بما لديه من إمكانيات ولتتضافر الجهود من أجل الوصول إلى خطة عمل وطنية تقوم على استثمار كل إمكانيات نساء ورجال وأطفال وشيوخ الشعب الفلسطيني توظيفها للانعتاق من هذا الاحتلال، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس، وأساس كل ذلك هو إنهاء الانقسام، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية كهوية جمعية كل الفلسطينيين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم، فهي كانت وستبقى الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويجب الحفاظ على هذا الكيان المعنوي لنا جميعا.
في مخيم جنين كما في باقي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وكما في باقي التجمعات الفلسطينية في دول الشتات، رأيت في عيون النساء إصرار على العودة وكأن نظراتهن تقول العودة حتمية، ولا أعتقد أن من خرج من الجليل أو من عكا او صفد يريد أن يعود إلى نابلس أو الخليل، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، وعلى هذا الأساس نقول بأن الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة هي الحل، وهي المخرج. نعم قبلنا بحل الدولتين، ولكن الحقائق الاستعمارية الموجودة على الأرض الغت لا بل قتلت إمكانية تحقيق هذا الحل.
كان لدي أمل في الوصول إلى سلام مع الإسرائيليين، ومن أجل فحص هذه الإمكانية حاولت، من خلال مبادرة كسر الجمود تحت رعاية منتدى الاقتصاد العالمي، وبتكليف من الأخ الرئيس محمود عباس، أن أصل مع مجموعة من رجال الأعمال الفلسطينيين والإسرائيليين في العام 2012 ولمدة ثلاث سنوات تقريبا إلى تفاهم مبني على أساس “حل الدولتين” وتحاورنا طويلا من أجل أن نخرج بوثيقة ملخصها قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام 1967، بعاصمتها القدس، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين بما فيها حق العودة وفق مبادرة السلام العربية التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002، ووافقت عليها جميع الدول العربية والإسلامية بعدها، ولكن رغم كل هذا لم نستطع أن نصل معهم إلى أي نتيجة وعندم حان موعد الاتفاق قاموا بالاختفاء، وهذا دليل أوضح على الفكر الذي تتبناه الحركة الصهيونية بما يخدم وعد بلفور، وإنهم ببساطة ينكرون الحق الفلسطيني، كذلك وضمن هذه الجهود التقيت، حينها، مع نفتالي بينت من حزب البيت اليهودي، والآن هو رئيس الوزراء في دولة الاحتلال، وقلت له لا يمكن أن تستمر إسرائيل بإنكار الحق الفلسطيني، وعلينا أن نعيش سوياً وبسلام وعدل على هذه الأرض، مهد الديانات وأرض السلام، ولكنه لم يستوعب ما قيل له، مثله مثل باقي الذين يتبنون الفكر الصهيوني، وما اغتيال اسحق رابين إلا دليلا على حجم التطرف في المجتمع الإسرائيلي.
إن هذه الفكر لا يخدم الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، فهو امتداد لإعلان بلفور الذي أسس لثقافة الكراهية في المنطقة، لأنه ببساطة نفى حق غير اليهود على هذه الأرض، واعتبرهم طوائف غير يهودية رغم أنهم كانوا يشكلون الأغلبية، وجاء نتنياهو ليجسد هذه الفكرة على الأرض من خلال قانون القومية العنصري والدولة اليهودية، الذي يفتح الطريق أمام “إسرائيل” لتنفيذ سياستها في طرد ما تبقى من الفلسطينيين في فلسطين التاريخية أو التعامل معهم على أنهم مواطنين من الدرجة العاشرة، وليس لهم أي حقوق مدنية أو سياسية، وجاءت صفقة القرن المشؤومة لتجسد وتدعم ما جاء في تصريح بلفور وما ترجمه قانون القومية، لذلك نقول بأن الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة هي الحل، وهي المخرج، ونقول للمرأة الفلسطينية حيثما كانت “كل عام وانتٍ بخير، وكل عام ونحن أقرب إلى حيفا، وحتماً كما قالت عيناك “العودة حتمية” وسنغني جميعا على شاطئ حيفا للسلام والحب. كل عام وشعبنا الفلسطيني بخير.

Related posts

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات

العرس ديموقراطي والدعوة عامة!* بشار جرار

انشاء سوق طوعي لأرصدة الكربون قد يساعد شباب ريادة الأعمال على إيجاد فرص عمل* د. حازم الناصر