جاء خطاب الملك في عيد ميلاده الميمون ليطرح ثلاث قضايا وطنية قاطعة، ويعيد التذكير بأولوية التعامل معها والاستجابة لمتطلباتها. أولها الثقة في إمكانات وعزيمة الأردنيين والأمل بمستقبل مشرق. وثانيها الإقرار بحالة التراجع في قطاعات ومفاصل رئيسة في الدولة.
وثالثها دعوة الحكومة للعمل الجاد المنتج المبدع لوضع الحلول بعيداً عن التردد والارتجاف. وقد تناول الخطاب ضمن ذلك، المسائل الأكثر الحاحاً بالنسبة للمواطن، ابتداء من المسألة الاقتصادية والتي مضى عليها سنوات طويلة والبلاد تعاني من معدلات نمو اقتصادي متواضع يتأرجح بين 1.5 و2.5 في المائة في حين أن معدل الزيادة السنوية للسكان 2.8 % بل أكثر.
الأمر الذي ترتب عليه تراجع دخل الفرد، وتآكل الطبقة الوسطى وانزلاق اعداد كبيرة من المواطنين نحو ساحة الفقر سنة بعد سنة. ثم تناول المسألة الادارية من حيث الترهل وضعف الادارة والتكلّس البيروقراطي، ومن ثم تراجع مكانة الاردن في مجالات متعددة في مقدمتها التعليم وانتاج الغذاء و الخدمات الطبية، بعد ان كان في مقدمة الدول العربية. و المسألة المهمة أيضا كانت الإشارة الى الإصلاح السياسي.
وبالمقابل، وحسب الاستطلاع الذي اجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية، يرى الكثير من المواطنين ان اهم المشكلات التي تواجه جماهير الشعب تتمثل في الفقر واتساع دائرته، ليضرب 24 % من السكان، والبطالة التي تعدت 24 %، وارتفاع الاسعار التي تضع الاردن في الترتيب 57 في الغلاء على مستوى العالم، علماً بأن ترتيبه في الدخل 132، والخدمات الصحية التي أخذت تتراجع وترتفع كلفتها.
ويضيف اخرون مشكلات الفساد، والمديونية التي تعدت 32 مليار دينار، وانتشار المخدرات والجريمة بشكل يدعو للقلق. كل هذا اضافة الى ازمة المياه والطاقة والتي انزلقنا لنعتمد في أجزاء منها على دولة الاحتلال الصهيوني التي لا يمكن الثقة بها.
ان رسالة الملك واضحة ومباشرة، وأجزاء منها وردت قبل سنوات في الأوراق النقاشية وخطابات العرش والرسائل الملكية، ولكنها اليوم تضع المؤسسات أمام تحديات كبيرة لا بد من مواجهتها. ولكن، وحتى لا يستنفد الجهد في النقاشات والحوارات أسابيع وأشهر، كما جرت العادة منذ 30 عاماً، فإن علينا، سواء اليوم أو بعد أسابيع أو بعد أشهر من الحوار، علينا مواجهة التحدي الإجرائي: أين نبدأ؟ وكيف نبدأ؟ خاصة وان البلاد تعاني من حزمة مركبة من المشكلات.
السؤال الكبير: هل تستطيع ادارة الدولة فعلاً ان تدخل في جميع المشكلات مرة واحدة؟ وتحقق نقلات نوعية في الاقتصاد والتعليم والصحة والماء والطاقة والفقر والبطالة والشباب والغذاء والزراعة وغيرها؟ بالتأكيد لا، لأن الجهود ستتوزع في كل اتجاه، والانجاز على الارض سيكون ضئيلاً للغاية، و قد سبق تجربة هذا الطريق أكثر من مرة.
وهنا لا بد من الإفادة من تجارب الدول التي نجحت في هذا المضمار، سواء كانت كوريا على سبيل المثال أو ماليزيا أو سنغافورة أو الصين أو البرتغال أو غيرها.
كانت بداية النجاح في مسيرة تلك الدول، “التركيز على قضية اساسية واحدة، وتسخير كل امكانات الدولة لوضع الحلول الصحيحة المبدعة الحاسمة، القائمة على العلم والفكر والتجديد والابداع ومشاركة المواطنين.”
و”بسبب الترابط الديناميكي الجدلي بين مختلف القضايا القطاعية، فإنها تأخذ بالتداعي والانخراط الواحدة بعد الاخرى، وتصبح المسألة الواحدة قاطرة للمسائل الأخرى”. وهكذا خلال 20 سنة يقع التغيير في كل مكان.
فإذا اخذنا البطالة مثلاً لتكون هي القضية الكبرى التي سنتصدى لها بهدف تخفيضها من 24 % الى أقل من المعدل العالمي والبالغ 6.5 %، خلال 12 عاماً مثلا، ولأنه لا حل للبطالة دون مشاريع، فهذا يستدعي إقامة مشاريع جديدة لتوليد فرص العمل الجديدة، والتي تتطلب بدورها الاستثمار الوطني والخارجي، الأمر الذي يستدعي ادارة رسمية بعقلية مختلفة مشجعة للمشاريع ولديها كوادر مرنة ومدربة لهذه الغاية. وتشريعات مستقرة وميسّرة للاستثمار ومنظومة مالية مصرفية ملائمة لا تبالغ في الفوائد والضمانات.
وحتى يتحقق الاستمرار فلا بد من تدفق الشباب الرياديين. وهذا يتطلب تمكين الشباب في المدرسة والجامعة والمعهد من المهارات الريادية وإدارة المشاريع، ويتطلب من الإعلام والثقافة التركيز على ثقافة الريادية.
كما أن المشاريع تتطلب أيدي عاملة مدربة ومبدعة، الأمر الذي يستدعي مراجعة التأهيل المهني والتخصصات المهنية واعادة بناء منظومة التدريب على اسس جديدة، بالتعاون مع القطاع الخاص، فيصبح سوق العمل جاذباً لخريجي المعاهد والتخصصات المهنية والتكنولوجية، فيعتدل إذاك ميزان التوجه الى التعليم الاكاديمي، ويصبح بالإمكان تطوير التعليم العالي والتركيز على البحث والتطوير والابداع.
ولأن المشاريع تتطلب المهارات وليس الشهادات، وتتطلب الابداع وليس الاتباع، والتجديد وليس التقليد، فإن مراجعة التعليم وتطويره بشكل جذري وتأهيل الطلبة لمهارات التفكير وحل المشكلات تصبح ضرورة ملحّة. ولأن المشاريع يلزمها التمويل فتصبح المشاركة المجتمعية في التمويل من خلال التعاونيات والمساهمات من صغار المستثمرين والمدخرين في الشركات الجديدة ضرورة وطنية، بدلا من الركون إلى المساعدات والقروض.
ولأن المواطنين يضعون مدخراتهم كجزء من المساهمات، فتصبح الشفافية والمساءلة أساس للعمل.. وكل خطوة في هذا الاتجاه من شأنها ان تخلق فرص عمل جديدة وثقافة مجتمعية جديدة، وبالتالي تجسر فجوة الثقة بين الحكومة ودوائرها وبين المواطنين. كل ذلك يتطلب توفير الطاقة والمياه بأسعار مناسبة، فيصبح بناء السدود والحصاد المائي وتكنولوجيات توليد المياه ضرورة لنجاح الاستثمارات الجديدة، والتي تدفع الى مزيد من مشاريع تحلية المياه من جهة، وتوليد الطاقة المتجددة من جهة أخرى، ومكننة الزراعة وتصنيع الغذاء من جهة ثالثة.
وحتى تنجح هذه المسيرة فإن نظرة الحكومة الى الجمارك والى الاستيراد والى ضريبة المبيعات يجب أن تتغير. وسيعمل الجميع على دفع الإنتاج الوطني لتوفير فرص العمل في مختلف القطاعات. كل ذلك يتم في اطار تكنولوجي متقدم بفضل مشاركة العلماء والمفكرين والأكاديميين ومراكزالأبحاث، والابداعات الشخصية والمؤسسية. فتصبح الكثير من فرص العمل جاذبة للشباب الاردني لانها تضم مدخلات تكنولوجية راقية سواء في الصناعة أو الزراعة أو السياحة ، وبذا يتحقق الإحلال التدريجي للعمالة الوافدة.
واذا كان نجاح الاستثمار وديمومة فرص العمل يدفعها الانتاج والتصدير فيصبح موضوع النقل ضرورة قصوى، مما يدفع باتجاه انشاء شبكة وطنية لخطوط الانابيب للنفط ومشتقاته وللغاز،ً وانشاء السكة الحديد بكل ما تخلق هذه البنية التحتية الجديدة من فرص العمل، بدلا من نقل ملايين الاطنان سنوياً بالسيارات الفردية . وهكذا نرى ان مسألة البطالة تستدعي الدخول في 28 مجال من الاصلاح، واذاك يقع التكامل وتتبلور النتائج الايجابية .
وهكذا تبدأ معدلات الفقر في التراجع ،ومعدلات البطالة في الانخفاض و الطبقة الوسطى في استعادة حجمها و فاعليتها. بهذا الاسلوب خفضت ماليزيا بسكانها البالغين 33 مليون نسمة البطالة من 75% عند استقلالها الى متوسط 3.5% خلال العشرين سنة الماضية.
ان التركيز على مفصل واحد كالبطالة او التصنيع أو الأمن الغذائي أو التعليم او الفقر ..الخ ليكون هو القاطرة، من شأنه ان يكشف نقاط الضعف في كل جزء من اجزاء الادارة الحكومية و الأهلية ،سواء لدى الحكومة او القطاع الخاص او الاكاديميا او التعليم. وسيكون الاصلاح اكثر وضوحاً لأنه مستند الى خلفية عملية قابلة للقياس.
اما الدخول في جميع القضايا فسوف يبعثر الجهود من جهة ويجعل الاصلاح غير ممكن من جهة اخرى لأنه لا يرتبط بمسألة محددة يمكن من خلالها تحديد نقاط القوة ونقاط الضعف لتلافيها. إذ لا يمكن تطوير الجهاز الاداري في الوزارات دون انخراط هذا الجهاز في تحقيق هدف معين معروف للجميع و يتابعه المواطن يوما بيوم.
إن خطاب الملك ورسالته تتطلب العمل الحقيقي المحدد وليس العموميات، والدخول في حلقة واحدة والتركيز عليها لتحقيق النجاح. وعلينا أن نتأكد بأن المستقبل هو في الاعتماد على الذات وليس على الآخرين، وإنهاء سياسة تصدير وتحييد رأس المال البشري الأردني ورأس المال الاجتماعي.