عروبة الأخباري- كتب سلطان الحطاب
رحل عدنان أبو عودة.. ورحلت معه اسرار كثيرة حاول التخفف منها بنشر الكثير من المواقف واللقاءات والمؤتمرات والأحداث الحاسمة التي عاشها او شارك فيها من موقع القريب من متخذ القرار، فقد ظل أبو عودة في القصر أو الحكومة أو قريب من القصر، كما ظل قريبا من المعلومات ومطلع على الكثير منها.. وشريكا في منتديات دولية وجامعات ومراكز بحوث أمدته بالكثير مما يريد وساعدها في بلورة مواقف كثير من قضايا المنطقة..
كان أبو عوده مستشارا لا يبخل بالرأي، بل كان يسعى دائما لتقديم رأيه، وكان يجتهد أن يصل رأيه و أن يكون له أهمية، لم تنقصه الجرأة والشجاعة خاصة بين يدي الملك الراحل الحسين، فقد ظل يمحضه النصيحة ويرافقه إلى أماكن كثيرة في مؤتمرات القمة، وحتى في الزيارات الخاصة او ذات الطابع السري.. ولعل الأبرز في ذلك زيارته المكوكية في معية الحسين إلى العراق و التي ظل يقابل فيها الرئيس صدام حسين ويستمع له..
كنت في واحدة من تلك الزيارات وكانت في 4/1/1990 ذكرى تأسيس الجيش العراقي ، حيث انعقدت احتفالات كبيرة و مدهشة عن قوة الجيش العراقي وتطوره بعد أن عاد من جبهات القتال مع إيران لتحتفل بالنصر ويعلن عن إمكانياته المتطورة التي رأيناها في العرض العسكري الشهير، حيث تزويد الطائرات بالوقود من الجو وحيث عرضت احدث انواع الدبابات والصواريخ والمدافع التي شاركت في الحرب..
كنا في المنطقة التي كان فيها جلالة الملك والرئيس صدام وكان في المنطقة رئيس الوزراء مضر بدران والشريف زيد بن شاكر وعدنان أبو عودة وعدد من الضباط الأردنيين المرافقين في الزيارة الملكية وكانت مجموعة من القيادة العراقية..
حين بدأ العرض كنت اسمع آيات الشكر والحمد لله وكلمة الله اكبر، وكان مضر بدران قد قام ليذهب خلف المنصة ويبدأ صلاة فيها الشكر و الابتهال لله، فقد صدمه حد الذهول قوة الجيش العراقي و تنظيمه، ولذا كان دائما يراهن عليه كما حدث معه في البرلمان الأردني حين راهن على انتصار العراق..
في اليوم التالي كنا في معية جلالة الملك إلى أحد القصور التي كان فيها صدام حسين وقد وصلت وانتظرنا في قاعة فارهة حتى يأتي الرئيس، كان الجو شبه ماطر وأميل إلى البرودة، جاء الرئيس صدام وكان يلبس ملابس “برتشز” الفرسان – البنطلون الضيق على الساق والواسع من الأعلى وجاكيت من الجلد – ودخل وقد سلم على الجميع حين قدم الملك من رافقوه إليه . واذكر إنني حصلت على هدية عبارة عن ساعة عليها صورة الرئيس صدام جاء بها أحدهم حين طلب الرئيس بعد أن قال إنني كنت قابلته من قبل، فقط تذكر وأخذت معه ساعتها صورة نشرتها على غلاف كتابي عن العراق “العراق نقطة أول السطر”..
شربنا شايا وجلسنا على كراس “كنب” كان الرئيس صدام حسين جوار الملك الحسين و يقابلهم عدنان أبو عودة والشريف زيد ومضر بدران، وكنا نجلس في الصف الثاني..
نظر الرئيس صدام إلى عدنان أبو عودة وسأله .. كيف شايف الوضع يا أبو السعيد؟ كانت المنطقة متوترة.. كان صدام قد اعدم الصحفي الهندي البريطاني بازفت بتهمة التجسس، وكان قد هدد بحرق نصف إسرائيل من قبل..
قبل أن يجيب أبو عودة الرئيس صدام أستأذن الملك فقال له تفضل.. أدركت ساعتها أهمية الموقف فأخرجت ورقة وأخفيتها بين رجلي وكتبت اصف الموقف و اللحظة وتعبيرات الوجوه، كنت أرى وجه الرئيس صدام والملك بوضوح تماما..
بدأ عدنان أبو عودة الإجابة وقال- ما زلت احتفظ بالورقة وكنت اخبرت عنها أبو السعيد- الذي قال ردا على السؤال :يا سيادة الرئيس.. الولايات المتحدة الأمريكية تريد من المنطقة شيئين.. “إسرائيل والنفط”، وانت تناولت ذلك.. ولذا فإن الذهاب في هذا الاتجاه قد يأتي بحرب، فإن قامت فإن الولايات المتحدة ستجرب كل انواع السلاح التي لم تجرب منذ الحرب العالمية الثانية، وستشهد المنطقة زلزالا، ولابد أن ننتبه إلى الرأي العام الغربي الذي بدأ يعبئ ضد المنطقة ويخلق الأعذار للعدوان عليها ، وهذا ما تتحدث عنه الصحافة وخاصة البريطانية.. وكان أبو السعيد قد أكمل الجملة التي استغرقت دقيقتين ولم يبدأ بعد في الشرح التفصيلي او ينتقل إلى جملة أخرى، كان صدام كما بدا على وجهه غير راض من التحليل فقاطع أبو عودة قائلا: “ما أخبرك مهزوم ” ..لم يعجبه الكلام .. كان الملك حسين قد أدمأ لعدنان برفة عينه أن يتوقف، ونظر الى صدام قائلا: سيادة الرئيس هذا عدنان جنني أيضا من التنظير في كل يوم وانت تعلم أن المثقفين يحبون التنظير علينا.. لا نريد أن نضيع هذا الوقت الجميل اليوم وقد وعدتنا أن نخرج إلى البحيرة لصيد السمك.. فضحك صدام ضحكته المشهورة مقهقهاً وقال: معك حق يا أبو عبدالله..
كان أبو السعيد قد صمت فقال طه ياسين رمضان: نحن إذن نستطيع أن نذهب إلى المتحف طالما ان سيادة الرئيس وجلالة الملك سيخرجون إلى البحيرة.. وقمنا جميعا وتوجهنا إلى المتحف، يومها جرى التقاط صورة للرئيس والملك تسربت إلى الصحافة الامريكية وقد كتب عليها تعليقات مدسوسة اتهمت الطرفين بالتآمر من أجل عودة الأردن إلى الحجاز.. وجرى محاسبة المصور لاحقاً..
عدنا إلى مكان اقامتنا بعضنا في فندق الرشيد أما الملك والحاشية فقد أقاموا في دارة الملك الشهيد فيصل الثاني التي أقيمت على نهر دجلة ليتزوج فيها قبل أن يقتل، وقد جرى دعوتنا للتوجه إلى العشاء على مأدبة الملك ووصلنا وجلسنا وجلس جميع افراد الوفد، فنظر الملك إلى عدنان أبو عودة مشفقا وقال: “شنو شايف يا أبو السعيد” مقلداً لهجة الرئيس صدام، فقال أبو السعيد: دخلك سيدي لم أقصد، فقال الملك: ما قلته يا أبو السعيد صحيح لكن من يسمع؟.. لقد قلنا هذا الكلام كثيرا وانت تكرره، لا يريدون أن يسمعوا أي نصيحة، لقد قلت الكثير الكثير أنا أيضا..
لا أنسى تلك المشاهد والمواقف وشجاعة عدنان أبو عودة ومحضه النصيحة التي كان بالإمكان أن يجامل فيها أولا يرد إجابة عليها ..
والخلاصة متروكة للقارئ.. لقد عاش أبو السعيد عذاب المثقف الذي يتحمل مسؤولية رأيه.. وكان قد كتب معظم خطابات جلالة الملك الهامة والمفصلية في الأحداث، وأهمها خطاب فك الارتباط، اما خطاب مدن الملح ونقد دول الخليج التي عادت الأردن آنذاك فلم يكن قد كتبه!!