د. منذر الحوارات
انتهينا للتو مما أطلق عليه في الاردن بعملية إصلاح وتحديث المنظومة السياسية في البلد، تشمل إيجاد آليات جديدة لاتخاذ القرار السياسي، ابتُدأت هذه العملية بتشكيل لجنة حكومية للتحديث، تمخضت عن مجموعة من القرارات يؤخذ منها ويرد على بعضها، وكان الشرط أن تقدم هذه الاقتراحات من قبل الحكومة بدون أي تعديل، وهذا ما تم فعلاً، لكنها أُرفقت بتعديلات دستورية كان لها وقع الصاعقة على الأغلبية الساحقة.
هذا الأمر أعطى الانطباع بأن الدولة منقسمة على نفسها، ولم تصل بعد الى مرحلة القناعة لدى جميع طبقاتها العميقة بأن التحول إلى الديمقراطية هو الطريق الآمن الوحيد للمستقبل، والذي يرضي الداخل والخارج في نفس الوقت، لكنّ المؤمنين بهذا المنطق يشكلون أقلية بين مجموعة من التيارات التي ترى في مجملها أننا يمكن أن نقوم بعملية تحوّل تطال الشكل، دون أن تمس جوهر صناعة القرار.. هذا التيار يبدو أنه من كسب الجولة في النهاية.
كانت وجهة نظر أولئك أن عملية تغيير صُناع القرار السياسي والاقتصادي ستؤدي إلى هزات عنيفة داخل بنية النظام السياسي، وروجت لفكرتها بأن التجاذب الحزبي سيؤدي إلى صراع بين تلك المكونات على مؤسسات الدولة للحصول على المكاسب بشكل ضيق ينحصر في الإطار الحزبي، ويتفق مع ما تحدث به رُوسّو (والذي عرف التحول الديمقراطي بأنه: عملية اتخاذ قرار تساهم فيها ثلاث قوى ذات دوافع مختلفة، وهي النظام والمعارضة الداخلية والقوى الخارجية، ويحاول كل طرف إقصاء الأطراف الأخرى، وتتحدد النتيجة النهائية وفقاً للطرف المنتصر في الصراع).
وهذا الصراع في بداية العملية سيكون غير مبني على أسس تضمن سلامة المؤسسات كما يعتقد هؤلاء، لذلك يبدو أن هذا التيار فضّل الدخول فيما يعرف بـ”ديمقراطية الواجهة، حيث تغلف العملية بمجموعة من مظاهر الخداع والتمويه، بحيث تعطي الانطباع للمراقب الخارجي بوجود حياة ديمقراطية كالانتخابات والبرلمانات وإعلان للحقوق والحريات، لكن تظل هذه المظاهر دون مضمون ديمقراطي في الواقع الحقيقي، فهي تقترب من مفهوم النظم الشبه ديمقراطية” (منقول).
هؤلاء هم من قادوا الانقلاب على عملية التحول الصادق نحو الديمقراطية؛ لأنها باختصار تتعارض مع مصالحهم، فهي ستؤدي بالضرورة إلى تراجع مصادر قوتهم، وبالتالي تؤدي إلى تراجع مكاسبهم.
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى؛ فإن وصول جهة جديدة لمواقع صناعة القرار، وبالتالي الاطلاع على المعلومات المخفية عن الرأي العام، سيؤدي للكشف عن ملفات كثيرة.
لأجل ذلك؛ قاموا بعملية التفاف سريعة على مجمل العملية، بحيث قاموا بعملية تلزيم للصلاحيات أولاً، بحيث تضع حاجزاً بين المؤسسات وبين أي حكومة قادمة على أساس حزبي، والذريعة جاهزة بالطبع، وذُكرت في السياق.
ومن جهة أخرى؛ قاموا بإنشاء مؤسسة عابرة للمؤسسات تتخذ القرار بدون الرجوع إلى الحكومة، مما يضع القرارات الاستراتيجية بعيداً عن متناولها، وكل هذا يجب أن يكون ذا طبيعة فوق حكومية، لذلك جاءت التغيرات في الدستور.
بالطبع؛ فإن مخاوف الارتباك البيروقراطي أثناء عمليات التحول الديمقراطي موجودة في كل دول العالم، لكنها في أغلبها ابتدعت وسائل ديمقراطية لاستيعاب الفجوة القائمة في هذا المجال، أما في بلدنا فقد استغلت هذه المخاوف للاستحواذ التام على مؤسسات الدولة في يد جهة واحدة.
وما حصل من عراك صبياني في مجلس النواب؛ لم يكن سوى مظهر بسيط لذلك الانقسام داخل أجهزة الدولة، وعلى ما يبدو أنه لم تتم تهيئة مجلس النواب بشكل محكم بحيث تمر التعديلات بدون صخب، وهذا ما كشفت عنه بداية النقاشات عند طرح إضافة كلمة “الأردنيات”؛ فقد بدى من النقاش أن مزاج المجلس يقترب من مزاج الشارع، مما أعطى الانطباع بأن الأمور قد تخرج عن السيطرة، وهنا على ما يبدو اتُّخذ القرار بضرورة فض الجلسة وتخريبها حتى لا تذهب الأمور بالاتجاه الخاطئ، فوجدنا أن الوضع في المجلس خرج عن السيطرة بدون مبرر حقيقي، ولم يستطع أياً كان بعد ذلك رصد السبب الحقيقي لما آلت اليه الأمور.
عُلقت الجلسة لأيام، وفي أثناء ذلك تمت تهيئة أعضاء المجلس لتمرير التعديلات بسهولة، وهذا ما حصل فعلاً، وما يؤكد هذه الفرضية ان النقاش بعد موقعة المجلس عاد للتناغم مع معزوفة الحكومة، ويسير على هديها.
لقد كانت التعديلات في أغلبها عبارة عن حشو إنشائي، كما ذكر ذلك مقرر اللجنة القانونية في برنامج تلفزيوني. أما الدسم فقد كان في بضع مواد قررت مستقبل البلاد السياسي، وأنهت في واقع الأمر أي أمل حقيقي للتحول الديمقراطي الذي هو في الأساس إرجاع أصل السلطة السياسية إلى الإرادة العامة للأمة.
فما حصل – للأسف الشديد – هو أن المتحكمين بالأمور نجحوا في وضع المتاريس والدروع أمام إرادة المجتمع للوصول إلى صناعة القرار من خلال التمكن من الوصول إلى مؤسسات الدولة، لكن هؤلاء وإن نجحوا في الحفاظ على مصالحهم، إلا أنهم أدخلوا البلد في مأزق مفتوح على كل الاحتمالات غير السارة.