انتهت قمة المناخ في غلاسكو قبل أيام، و شارك في المؤتمر عدد كبير من رؤساء الدول، بمن فيهم الرئيس الأميركي ومعظم رؤساء أوروبا، وممثلون عن 190 دولة، اضافة الى مؤسسات أممية واقليمية ووطنية مستقلة، وممثلين عن قطاع الطاقة من شتى الدول بما فيها الدول المنتجة للفحم والنفط والغاز، باعتبار هذه المواد الثلاثة هي المسبب الأكبر للتلوث الكربوني. وخرج المؤتمرون ببيان توفيقي لا يتضمن قرارات إجرائية واضحة وحاسمة، بقدر ما تضمن من توصيات مهمة لا بد من الالتزام بها.
لقد كان هدف المؤتمر أن يخرج بمنظومة فعالة من الآليات للعمل الدولي والاقليمي، ترافقها برامج عمل وتخصيصات مالية كافية لتنفيذ البرامج اللازمة للمحافظة على درجة حرارة الكرة الأرضية بحيث لا يزيد الارتفاع فيها جراء النشاط الانساني عموماً واحتراق المواد الكربونية بشكل خاص عن 1.5 درجة سلسيوز (مئوية)، وبالتالي التخلص من انبعاثات ثاني اكسيد الكربون بحلول العام 2050 باعتبارها الاكبر تأثيراً في ارتفاع حرارة الارض.
كان هناك تلكؤ من الدول المنتجة للفحم والنفط وكذلك الشركات والمؤسسات ذات العلاقة بالإنتاج، لتأثير ذلك على دخول الدول المنتجة وأرباح الشركات. واكتفى البيان بالتوافق على ضرورة التخفيف التدريجي من الفحم كمصدر للطاقة لينتهي استعماله بحلول عام 2050 باعتبار الفحم هو الملوث الأكبر للبيئة سواء من حيث الغازات أو الحرارة. وخصص المؤتمر 100 مليار دولار لمساعدة الدول الفقيرة على التعامل مع التغيرات المناخية والتحول الى الطاقة المتجددة وهو تخصيص متواضع وغير عادل لأن الدول الصناعية الغنية تنتج الجزء الأكبر من هذه الملوثات.
هذا وتختلف الانبعاثات الكربونية من بلد الى آخر حسب درجة التصنيع التي وصل اليها، وأنظمة النقل السائدة، وحسب أنواع الوقود الأحفوري المستعملة. وبشكل عام وعلى مستوى العالم فإن توليد الطاقة الكهربائية والحرارية مسؤول عن 57 % من الغازات الكربونية، بينما يبتعث قطاع النقل 16.2 %. ان معدل ابتعاث ثاني اكسيد الكربون في الهند يصل 2 طن/فرد سنويا، وفي كل من الأردن ومصر، كنموذج للدول النامية، يصل 2.6 طن ليرتفع في قبرص الى 4.4 طن، في حين يرتفع في الصين إلى 7.2 طن وفي المانيا 8.56 وفي روسيا 11.3 وفي أميركا 15.24طن/فرد سنويا. ان الدول الصناعية في “مجموعة العشرين” تنتج أكثر من 80 % من الانبعاث الكربوني العالمي، في حين لا تنتج الدول النامية والفقيرة وهي اكثر من 150 دولة الا الجزء الضئيل من الغازات الكربونية 20 %.
إن النتائج الحاسمة التي خرج بها المؤتمر تتمثل في:
أولاً: ان التغيرات المناخية الناشئة عن الانبعاثات الكربونية حقيقة قائمة، لا مجال لإنكارها او التهوين من شأنها، وتمس كل دولة بذاتها.
ثانياً: ان جميع دول العالم سوف تتأثر بها سلباً، من حيث ارتفاع درجات الحرارة، وذوبان الثلوج، وانخفاض كميات الأمطار، وحدوث فيضانات كاسحة، وظهور موجات معقدة من امراض بشرية ونباتية وحيوانية غير مألوفة.
ثالثاً: إن المناطق الساحلية التي لا يزيد ارتفاعها على متر واحد عن سطح البحر مهددة بالغرق.
رابعاً: إن الطريقة الوحيدة لوقف هذا التدهور في المناخ هي ايقاف ثاني اكسيد الكربون المتأتي عن احتراق الوقودات الأحفورية، والتحول الى مصادر الطاقة المتجددة، وتعزيز البيئة الخضراء وحفظ الغابات والمسطحات المائية، ومقاومة التصحر.
خامساً: إن كل دولة، في الوقت الذي تشارك فيه في الجهد العالمي لمواجهة التغيرات المناخية، عليها وضع البرامج الخاصة بها لتقليل انبعاثاتها الكربونية، والمحافظة على البيئة لديها. فالأخطار والتهديدات تختلف في نوعيتها وشدتها حسب موقع الدولة على الخريطة، وحسب برامجها.
من جانب آخر فإن المنطقة العربية، ولأنها تقع في الحزام الصحراوي الكبير من غرب الصين الى المحيط الهادي، ستكون الأكثر تأثرا باتجاه ارتفاع درجات الحرارة والجفاف، وتراجع الامطار وعدم انتظامها. وسيكون الاردن، نتيجة لعدم وجود أنهار أو بحيرات، أو مياه سطحية أخرى، وضآلة المساحة الخضراء فيه، من أكثر البلدان العربية تضررا.
وعلى الرغم من اشتراك جميع دول العالم في مجموعة من الاجراءات التي تركز على التحّول من مصادر الطاقة الاحفورية (فحم، نفط ، غاز) الى الطاقة المتجددة، إلاّ أنه يترتب على كل دولة ان تضع البرامج التفصيلية اللازمة لها حتى تتمكن من الانتقال الى العهد الجديد بأقل الاضرار والخسائر والآثار السلبية. وبالتالي فالقضية الوطنية هنا: في ظل تسارع التغيرات المناخية وآثارها على الاقتصاد وعلى الصحة وعلى توفر المياه وانتاج الغذاء: ما هي البرامج والاجراءات التي ستواجه بها الدولة هذه التغيرات؟ وبالنسبة لنا في الاردن فإن الأمر غاية في الخطورة، وهو اسرع مما يتوقع الكثيرون، ولا يحتمل التأجيلات والتسويفات والترحيلات والتهوينات التي وقعت وعلى مدى 30 عاماً في قطاعات أخرى مثل المياه والغذاء والزراعة والنقل وغيرها. وعليه، فقد يكون من المناسب التحرك في الاطار التالي:
أولاً: تعزيز الأمن المائي الوطني بالمباشرة بانشاء سلسلة من محطات تحلية المياه على شاطئ البحر الاحمر واستخدام الطاقة الشمسية على أوسع نطاق.
ثانياً: العمل على انتشار وحدات تحلية المياه الصغيرة بل والمتنقلة لتحلية المياه المالحة أو المياه الرمادية حيثما توجد.
ثالثا: الذهاب الى تكنولوجيا الحفر العميق في طبقات الصخور الرملية وخاصة جنوب وشرق المملكة باتجاه السعودية والعراق لاستخراج المياه التي تتوفر في تلك الطبقات.
رابعا: إنشاء “مركز وطني للاستمطار وتكنولوجيا اصطياد الضباب” للحصول على أمطار للمساعدة في تحسين المحاصل البعلية.
خامسا: التوسع في السدود والسدود الترابية والحفائر والحصاد المائي على اوسع نطاق وفق برنامج سنوي محدد.
سادسا: التزام الدولة ببرنامج وطني لتعزيز الأمن الغذائي من خلال تطوير وتصنيع الزراعة من خلال المكننة والتكنولوجيات الحديثة والزراعة الذكية والزراعة المائية. وبرنامج للتحريج يشمل أكبر مساحة ممكنة وخاصة المرتفعات القريبة من المدن والقرى والارياف يشارك في تنفيذه طلبة المدارس والجامعات ونوادي الشباب ومنظمات المجتمع المدني والقوات المسلحة وبشكل دوري منتظم.
سابعا: العمل على انشاء دائرة متخصصة في وزارة الزراعة لمتابعة برنامج وطني لمكافحة التصحر وتحويل المناطق الشرقية من المملكة الى غابات على غرار التجربة الصينية في صحراء “ماو ووهو” في مقاطعة بنينغشيا.
ثامنا: ادخال سلالات نباتية وحيوانية مقاومة للحرارة والجفاف وتعميم النباتات التي تنمو بالصحراء مستفيدين مما لدى الصين واستراليا وغيرها من سلالات ونشر هذه النباتات في الاراضي الجافة.
تاسعا: تطوير نظام النقل من النقل الفردي كما هو اليوم حيث يستهلك 41 % من الطاقة الأولية الى النقل الجماعي والنقل الموفر للطاقة. ويشمل ذلك انشاء سكة حديد والتحول نحو السيارات الهجينة والكهربائية وتشجيع جيل الشباب على استخدام الدراجات الهوائية والكهربائية، مع تهيئة الشوارع لهذا التغيير وخاصة في المدن والضواحي.
عاشراً: زيادة المخصصات للمساعدة على تعميم السخانات الشمسية والطاقة الشمسية المنزلية على أوسع نطاق وخاصة في المدن والقرى والأرياف.
حادي عشر: التوسع في برامج حفظ الطاقة للمباني السكنية والمرافق الصناعية والاهتمام بالتصاميم والمباني الخضراء.
ثاني عشر: إن مفتاح النجاح في المواجهة هو العلم والتكنولوجيا. الأمر الذي يستدعي إنشاء مراكز أبحاث علمية و تكنولوجية متخصصة في الجامعات واستثمار العقول والخبرات الأردنية بدلا من تجاهلها وإبقائها متفرجة من خلال استيراد كل شيء حتى المياه.
إن العمل المناخي في الأردن يتطلب تدارك نقص المياه والغذاء من خلال سلسلة الصناعات المائية والمصادر الجديدة وحسن الادارة والترشيد من جهة، وضمان استمرار الزراعة وانتاج الغذاء من جهة ثانية، وتخفيف آثار ارتفاع الحرارة من جهة ثالثة، والتحّول عن الطاقة الأحفورية الى الطاقة المتجددة من جهة رابعة. إن تكرار أخطاء الماضي بالتهوين والهروب من العمل الوطني العلمي والتكنولوجي والمالي والهندسي إلى الاعتماد على الآخرين، والاستهانة بتنمية الاقتصاد، حتى أصبحت المنح والمساعدات والقروض هي الملجأ التقليدي، أمر فيه كل الخطورة على سلامة الوطن بالمعنى العميق. ان مستقبل البلاد اليوم اصبح متأثراً بالتغيرات المناخية التي لا تواجه الاّ بالعلم والعقل والتخطيط والمشاركة لجميع القطاعات والتنفيذ للبرامج، والاعتماد على الذات مالياً وبشرياً وتكنولوجيا. وهذا يمكن أن يكون بداية لانطلاقة اقتصادية حقيقية.