في العام 1953، وأثناء دراستي في جامعة تكساس حضرت زوجة الرئيس الأمريكي السابق إيلينور روزفلت إلى الجامعة لإلقاء محاضرة عامة قالت فيها بأن الإسرائيليين حولوا الصحراء إلى جنات خضراء، فوقفت غاضبا، وقلت لها عليك أن تراجعي التاريخ جيدا ففلسطين وعلى امتداد تاريخها خضراء ملئى بالخيرات، ولها حضارة ضاربة الجذور، متميزة ومتفوقة على الدول المجاورة، وبعض الدول الآسيوية والإفريقية من خلال ساكنيها العرب الذين كانوا يشكلون ما يزيد عن 95% من سكان فلسطين حتى عام 1920، وهي كانت قبل عام 1948 جنة وأصبحت حبيسة احتلال لا يرى منها سوى أرض يريد أن يستنفذ خيراتها ويزور تاريخها.
هكذا يُفكر كم هُم أسرى إعلان بلفور؛ “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، هذه الفكرة التي روجتها الحركة الصهيونية، وتبنتها الدول الغربية وآمنت بها ورددتها عن قصد أو بدون قصد، وكان من أعظم نتائجها إحدى أكبر المآسي الإنسانية التي سجلها تاريخ القرن العشرين، ألا وهي اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وتشريده، في جريمة كبرى أسس لها إعلان بلفور الصادر في الثاني من تشرين الثاني من العام 1917.
فَتحَ إعلان بلفور الطريق أمام الحركة الصهيونية لتجسيد ما قرره مؤتمر الحركة الصهيونية في بازل عام 1897، وهو “هدف الصهيوني هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام”، وهنا كانت بدايات “جريمة العصر” التي لا زالت مستمرة إلى يومنا هذا، فالحركة الصهيونية وفي سبيل تجسيد إعلان بلفور على الأرض ارتكبت، وبغطاء ومساعدة قوات الانتداب البريطاني، مجازر وفظائع بحق الشعب الفلسطيني وصولاً إلى تشريده بشكل كامل وإعلان استقلال “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين في 14 أيار من العام 1948، وأتمت احتلالها لما تبقى من فلسطين التاريخية في الخامس من حزيران عام 1967.
في سبيل الحفاظ على هذا “الكيان” وتوسيعه عملت الحركة الصهيونية على إعادة صياغة التاريخ بشكل يخدم أهدافها، فزورت الحقائق التاريخية، واختلقت وحرفت قصص توراتية، وخرجت برواية فيها مزيج غريب من الوقائع الدينية والتاريخية التي لا يمكن لها أن تصمد أمام القصة السردية الفلسطينية، والتي نعمل على إعادة توثيقها وجمعها في كتاب واحد يحفظ لنا تاريخنا وحضارتنا الممتدة منذ العصر الحجري وحتى الآن، فمعركة القصة السردية يجب فتحها لتكون عوناً لنا في كسب حقوقنا المشروعة وفي مقدمتها حقنا الطبيعي في تقرير المصير.
وأيضا وفي سبيل الحفاظ على هذا “الكيان” عملت الحركة الصهيونية على التغلغل في مفاصل الحكم أينما استطاعت ذلك، وعلى امتداد دول العالم، مستخدمة في ذلك كل الأدوات المادية والمعنوية، والأساليب التي أقل ما يمكن وصفها بانها دنيئة مثل الابتزاز، فأذكر عندما كنت أدرس في جامعة تكساس، القت شخصية يهودية معروفة اسمها “المر بيرغر” محاضرة في الجامعة، حيث تحدث عن الفرق والتباين بين “اليهود” و”الصهاينة، وأشار إلى النفوذ التي تملكه الحركة الصهيونية في مراكز صنع القرار والتأثير الكبير لهم، وكيف تعرض هو نفسه لضغوطات من الحركة الصهيونية ليتبنى فكرها، وتحدث عن دور الحركة الصهيونية في إنشاء دولة إسرائيل، وكيف قامت هذه الحركة بدعم العصابات الصهيونية ماديا وسياسيا، هذا كان قبل أكثر من ستون عاماً فما بالكم بحجم التأثير الذي تملكه الحركة الصهيونية على العالم من خلال سيطرتها على المال والسلطة، وبخاصة في الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض دول أوروبا؟.
إن هذه القوة “الغطرسة” التي تتسلح بها الحركة الصهيونية، دفعتها لأن تتصرف كدولة فوق القانون، ولا يمكن لأحد أن يتجرأ على محاسبتها، وعلى قاعدة من “أمن العقاب أساء الأدب”، بنت “إسرائيل” سياساتها واستراتيجياتها ليس فقط لابتلاع فلسطين، بل أيضا للسيطرة على المنطقة والإقليم، لتجسيد حُلم الحركة الصهيونية في إقامة الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات.
ودون الدخول في أية تفاصيل، قبلنا نحن الفلسطينيون بـــــ 22% من فلسطين التاريخية، وقبلنا بمبدأ حل الدولتين على أساس إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، بعاصمتها القدس الشرقية، ودخلنا في اتفاق سلام مع “إسرائيل” كان من المفترض أن يفضي إلى قيام دولة فلسطينية في أيلول من العام 1999، ولكن العقلية الصهيونية أفشلت، لا بل داست على هذا الاتفاق، وقتلت أي إمكانية لتجسيد حل الدولتين على أرض الواقع من خلال سياساتها الاستيطانية الإحلالية في الأرض المحتلة عام 1967، ورفضت كل المبادرات التي طرحت لحل الصراع، بما فيها مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002.
بالرغم من كل ما فعلته “دولة الاحتلال” بالشعب الفلسطيني، وما أصابني شخصياً من هذه الممارسات اللاإنسانية والتي ترتقي إلى مستوى جرائم، فقد عانيت كالكثيرين من أبناء شعبي، من حرماني من المواطنة بعد حرب حزيران عام 1967، إلى تدمير منزلي بالكامل أثناء حصار بيروت عام 1982، إلى إصابة حفيدي منيب برصاصة أقعدته عن الحركة أثناء مشاركته في مسيرات العودة عام 2011، في قرية مارون الراس جنوب لبنان، إلى منعي أحياناً من الوصول إلى منزلي في جبل جرزيم، لكن وبالرغم من ذلك كان لدي أمل في الوصول إلى سلام مع الإسرائيليين، ومن أجل فحص هذه الإمكانية حاولت، من خلال مبادرة كسر الجمود تحت رعاية منتدى الاقتصاد العالمي، وبتكليف من الأخ الرئيس محمود عباس، أن أصل مع مجموعة من رجال الأعمال الفلسطينيين والإسرائيليين في العام 2012 ولمدة ثلاث سنوات تقريبا إلى تفاهم مبني على أساس “حل الدولتين” وتحاورنا طويلا من أجل أن نخرج بوثيقة ملخصها قيام دولة فلسطينية على حدود العام 1967، بعاصمتها القدس، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين بما فيها حق العودة وفق مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت عام 2002، ووافقت عليها جميع الدول العربية والإسلامية بعدها، ولكن رغم كل هذا لم نستطع أن نصل معهم إلى أي نتيجة وعند الاتفاق قاموا بالاختفاء، وهذا دليل أوضح على الفكر الذي تتبناه الحركة الصهيونية بما يخدم وعد بلفور، وإنهم ببساطة ينكرون الحق الفلسطيني.
كذلك قمت باستضافة عائلة روتشيلد ومجلس أمنائها في بيت فلسطين بحضور ممثلين عن الحكومة الفلسطينية والأردنية والاتحاد الأوروبي، وممثل عن جامعة الدول العربية، وعن الرباعية الدولية في محاولة لإنجاح جهود حل الدولتين على أساس مبادرة السلام العربية، وتأييد حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران، دون جدوى.
بعد هذه التجارب وغيرها زادت قناعتي بأن الفكر الصهيوني مبني على إنكار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لا بل حقوق الشعوب العربية قاطبة، وهدف الحركة الصهيونية هو إقامة الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات، ونفي الآخر الموجود في هذا العالم من منطلق الفكر الصهيوني القائم على احتقار “الأغيار” وتسخيرهم لخدمة “الشعب اليهودي”، منكرين حقيقة أن اليهود عاشوا في الأقطار العربية على مدار قرون مواطنين لهم حقوق وواجبات المواطن، وعاشوا في الأندلس، وقدموا للحضارة العربية والإسلامية والعالمية الكثير، وحين تعرضوا للاضطهاد في أوروبا احتضنتهم المغرب والمشرق العربي، وعاشوا فيه مثلهم مثل أي مواطن آخر، ولكن، وخدمة لأهدافها التوسعية الاستعمارية، ابتدعت الحركة الصهيونية الإرهاب في الدول العربية مثل العراق وسوريا واليمن وغيرها بداية تأسيس دولة إسرائيل من أجل استجلاب المواطنين اليهود إلى الدولة الجديدة؛ لأنهم يتعرضون للاضطهاد، وهذا افتراء وكذب.
بعد أن رفضت “دولة الاحتلال” كل الحلول التي كانت ممكن أن تجنب المنطقة والاقليم مزيداً من الحروب والصراعات، وأن تجلب الأمن والاستقرار، وارتكازاً إلى الفكر التوسعي الاستقصائي، وهيمنتها على مراكز صنع القرار في العديد من دول العالم ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، أخرجت “صفقة القرن” في العام 2019، التي تسعى إلى تجسيد الدولة اليهودية، بشكل فعلي من النيل إلى الفرات، من خلال ضم ما تبقى من أراضي في الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال، والدخول في علاقات طبيعية مع الدول العربية، في قفز عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، واستبدال قاعدة “الأرض مقابل السلام” بقاعدة “السلام مقابل السلام”.
بين جريمة العصر وصفقة القرن، لا يمكن أن يكون هناك سلام وأمن في المنطقة والاقليم والعالم، وبين بلفور ونتنياهو جرائم وحروب ومآسي، لا يمكن لها أن تستمر، وهذه مسؤولية العالم بأن لا يسمح في أن تستمر “إسرائيل” بجرائمها، ليس فقط بحق الشعب الفلسطيني بل أيضا بحق الإنسانية، فنظام الابرتهايد الذي تتبناه “دولة الاحتلال” نظام مدان ومُجَرّم قانوناً وعرفاً، وكما سقط في جنوب افريقيا سيسقط في فلسطين لصالح دولة واحدة ديمقراطية قائمة على أساس المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات لجميع مواطنيها.
إن تجسيد حل الدولة الديمقراطية الواحدة يشكل أساساً معقولاً ومقبولاً من أجل إحلال السلام العادل والدائم والشامل، والقضاء على الفكر الاقصائي العنصري باتجاه الاستفادة من التقدم التكنولوجي الكبير الذي حول العالم إلى قرية صغيرة، فالبشرية جمعاء تواجه معضلة التغير المناخي، وتواجه نفس الأوبئة، ومثال ذلك جائحة كورونا التي حولت العالم إلى أسرة واحدة تشترك في ذات الهم، وتبحث عن ذات العلاج، وهذا يمكن استخدامه في الدعوة إلى شرق أوسط جديد خالي من الحروب والنزاعات، وتحويل موارد دول المنطقة باتجاه محاربة الأوبئة والاهتمام بجودة البيئة، وتهيئة حياة ومستقبل أفضل للأجيال القادمة.