رحل عبد اللطيف عربيات، في نهاية إبريل/ نيسان 2019، وهو يصلّي صلاة الجمعة في عمّان، منهياً بذلك حياة حافلة بالعمل الدعوي والتربوي والتطوعي والسياسي، مسجّلاً صفحات استثنائية في تاريخ الأردن المعاصر، وكان مقدّراً لكتابه “صفحات من حياتي” أن يصدر بعد وفاته، وأن يتم إشهاره أخيراً بحضور نخبة من السياسيين والمثقفين الأردنيين.
كتاب يمثّل سيرة ذاتية لعربيات تبدأ من العائلة، ومن مراحل التعليم المبكرة في مدرسة السلط الثانوية، وتمتد إلى الدراسة الجامعية في بغداد والولايات المتحدة، ثم حقل التعليم الذي تدرّج فيه عربيات من معلّم إلى أمين عام لوزارة التربية والتعليم (1982-1985)، ثم أميناً عاماً لمجمع اللغة العربية، ثم نائباً ورئيساً لمجلس النواب، فعيناً في مجلس الأعيان، وأميناً عاماً لجبهة العمل الإسلامي، ومؤسّساً لمشروعات تنموية وتعليمية عديدة، ما يرتبط بالبيئة والتربية والتعليم والتعليم الجامعي والدراسات الإسلامية وغيرها من مشروعاتٍ أخذت الاهتمام والجهد الكبير من حياة عربيات الحافلة في مجال العمل العام.
لم يكن عربيات، إذاً، من رموز الحركة الإسلامية في الأردن فقط، بل كان سياسياً رفيعاً قاد مجلس النواب الأردني خلال لحظةٍ تاريخيةٍ كانت تمثل منعرجاً حقيقياً في الحياة السياسية، عندما تولّت شخصية معارضة رئاسة المجلس في مرحلة حرب الخليج 1991، وكان من الشخصيات القيادية في وزارة التربية والتعليم، ساهم في التعليم والإدارة وكتابة المناهج والتنظيم الإداري للوزارة.
ذلك كلّه يمكن الاطلاع عليه في صفحات الكتاب التي سلّطت الضوء على تجربته الشخصية في الميادين السابقة كافّة، إلّا أن الرجل الذي عُرف بالهدوء والحكمة والتواضع، تجنّب التنظير والحديث عن دوره الرئيس في قيادة الحركة الإسلامية في الأردن، وصوغ خطابها وسلوكها وعلاقتها مع الدولة خلال مرحلة طويلة من العمل الدعوي والسياسي، وهو الدور الذي عمل على تشكيل الاستثناء الأردني في علاقة الدولة بالجماعة، عقوداً طويلة، كانت تتسم فيها علاقة الأنظمة العربية بالإسلاميين بالتوتر والصراع الذي وصل إلى السجون والمعتقلات والنفي وغيرها!
في نهاية الثمانينيات، عاد الأردن إلى مسار الانتخابات الديمقراطية، ونجح عبد اللطيف عربيات في مجلس النواب، وأصبح رئيساً له، وأسّس مع الإخوان المسلمين حزب جبهة العمل الإسلامي، وكان له دور كبير في إعادة صوغ خطاب الحركة الإسلامية تجاه الديمقراطية، وقد يذكر كثيرون من السياسيين والمثقفين الأردنيين أنّه من الأوائل، مع صديقه إسحاق الفرحان، ممن صكّوا مصطلح الشيروقراطية (أن الشورى لا تختلف عن الديمقراطية)، وممن صاغوا مصطلح “حمد” (حركة مقاومة الديمقراطية) وإجهاضها في الأردن، وكان مدافعاً شرساً عن المسار الديمقراطي والحرّيات العامة وعن تحوّل الحركة الإسلامية بهذا الاتجاه. لذلك، خاض معارك سياسية وفكرية مع أكثر من اتجاه؛ الأول داخل الحركة الإسلامية من التيار الذي بقي معانداً ورافضاً القبول الكامل في العمل الحزبي وبالديمقراطية، ومع التيارات السياسية المحافظة التي كانت ترفع فزّاعة الخوف من الحركة الإسلامية.
برز دور عبد اللطيف عربيات في أكثر من صعيد: الأول، تطوير خطاب الحركة الإسلامية وعقلنة سلوكها وتطوير المؤسسات التابعة لها. والثاني، العلاقة مع النظام، وقد تمتع بعلاقة جيدة وودية مع الملك الحسين، ومع أقطاب النظام السياسي آنذاك، مثل الأمير زيد بن شاكر ومضر بدران، وكان، في أوقاتٍ كثيرة، يقوم من خلال هدوئه واتّزانه بإجهاض أزماتٍ محتملة بين النظام والإخوان، بخاصة بعد عام 1993، عندما حدث التراجع التدريحي عن اللحظة الديمقراطية في الأعوام الأربعة السابقة.
كان واضحاً حرص عربيات على تجنّب الحديث عن الخلافات والاختلافات في أوساط جماعة الإخوان المسلمين التي خرجت إلى العلن في العقد الثاني من القرن الحالي، وأدّت إلى تأسيس حزب المؤتمر الوطني “زمزم”، ثم تأسيس جمعية جماعة الإخوان المسلمين الجديدة، ولاحقاً حزب الشراكة والإنقاذ، الذي انبثقت بداياته من لجنة الحكماء في جماعة الإخوان التي كانت تسعى إلى رأب الصدع، وكان مقرّراً أن يكون الشيخ عربيات من ضمن المجموعة التي تخرج من جبهة العمل الإسلامي لتأسيس الحزب الجديد، لكنّه قرّر، في النهاية، ألا يخرج، وأن ينهي حياته في جماعة الإخوان كما بدأها منذ مرحلة المدرسة.