إصلاح التعليم: مشروع دولة.. تمويل الجامعات (1) / الدكتور ابراهيم بدران*

منذ سنوات عديدة، ومشكلات التعليم الاساسي تتشابك مع نظيرتها في التعليم الجامعي، مع امتحان الثانوية العامة (التوجيهي) وقبول الطلبة بشكل يتزايد تعقيداً سنة بعد سنة، ولا يسفر الاّ عن حلول مؤقتة تتغير كل عام، دون استقرار او استمرار، ما يجعل الموضوع مصدر قلق وتوتر للكثيرين من الطلبة وذويهم والإدارات الرسمية والجامعات. ولعل واحدا من أهم الأسباب وراء هذه الحالة من الارتباك، هو في ان الموضوع ينظر اليه كقرار حكومة وليس استراتيجية دولة، وكإجراء سريع محدود في الزمان والمكان وليس عملية طويلة وسيرورة مركبة تستغرق سنوات. بمعنى ان المشكلة الكبيرة، تتمثل في كيفية التعامل مع التعليم ومشكلاته، وتتفاقم حين تختلط الاوراق وتخرج الحلول كردود أفعال، واحداً على حساب الآخر، فتفشل جميعها.
لدينا في نهاية التعليم الأساسي وبداية التعليم الجامعي 4 إشكاليات رئيسية: الاولى تمويل التعليم العالي والثانية القبول في الجامعات والتخصصات الثالثة: امتحان “التوجيهي” وملابساته، والرابعة التنافس على المقاعد الجامعية الرسمية في إطار من العدالة والإنصاف. وما لم يتم التعامل مع هذه الإشكاليات، ليصار الى حل كل منها بمفردها جذرياً، فان عملية اصلاح التعليم الاساسي والجامعي والمهني والتكنولوجي، ستبقى متقطعة ومبعثرة، بخاصة وان كل اصلاح وارتقاء حقيقي، يستدعي أكلافا اعلى، مع التأكيد على ان العائد الاقتصادي والاجتماعي والحضاري، يكون اعلى بكثير منه قبل الاصلاح.
فإذا اخذنا تمويل التعليم العالي، نلاحظ بأن الجامعات في معظم دول العالم لا تستطيع الاعتماد على ما تحصله من رسوم من الطلاب فقط، بل لا بد وان تكون هناك مصادر إضافية من القطاعات العام والخاص والأهلي. وتكاد لا توجد جامعة في اوروبا او اميركا أو اليابان او كوريا، إلا وتعتمد في تمويلها على مصادر اخرى متعددة، بالإضافة لما يدفعه الطالب.
لقد أدى تهرب الحكومات المتعاقبة من وضع حلول حاسمة لمسألة تمويل الجامعات الرسمية وعدم مواجهتها بشكل كلي وشامل، للتوسع في قبول اعداد كبيرة من الطلاب، تزيد على الطاقة الاستيعابية للمرافق الجامعية من اساتذة وقاعات ومختبرات وغيرها، ما ادى للازدحام المفرط في كثير من الجامعات أو الكليات أو الأقسام، بكل سلبيات الازدحام على نوعية التعليم، والجانب التربوي للطالب، والبحث العلمي والابداع والتطوير للهيئة الأكاديمية والطلبة.
ولكي تواجه نفقاتها المتصاعدة وتغطي العجز المالي لديها، ذهبت الجامعات الرسمية الى برامج التعليم الموازي، والتي تضع اعباء كبيرة على اعضاء هيئة التدريس، وان كان العائد المادي لهم يكون مجزياً.
وفي الوقت نفسه، خلقت البرامج الموازية حالة من اللامساواة وغياب العدل بين الطلبة. وان ازدحام الطلبة والبرامج الموازية لا ترفع من سوية التعليم ولا تعطي الطالب الاهتمام والتركيز الذي يتطلبه تعليم القرن الحادي والعشرين.
ان الجامعات الرسمية في الأردن تواجهها ثلاث مشكلات رئيسة في التمويل، الأولى: عدم قدرة الخزينة على دفع كامل التكاليف الاقتصادية للجامعات، والتي تتعدى بمجملها 750 مليون دينار سنوياً، والثانية: ان التكاليف في ارتفاع مستمر، بخاصة اذا كنا نبحث عن نوعية التعليم ورفع مستواه وتخفيض ازدحام الطلبة. فبينما يبلغ متوسط كلفة الطالب الجامعي في الاردن 3 آلاف دينار سنوياً، نجد انها كمتوسط في الاتحاد الاوروبي 15 ألف دينار، وفي الولايات المتحدة الاميركية دينار30 ألف دينار.
والثالثة: ان طريق الموازي خلقت حالة من التمييز بين الطلبة على اساس القدرة المالية، وهو أمر غير دستوري لتساوي الاردنيين بموجب الدستور. وكانت الاستراتيجية الوطنية لتنمية القوى البشرية قد اوصت بإلغاء الموازي على مدى 5 سنوات منذ العام 2016.
ان اعداد الطلبة الجامعيين في تزايد مستمر، حتى لو ذهبت نسبة منهم الى التعليم المهني والتكنولوجي، والذي هو تعليم تزيد كلفته عن كلفة التعليم الاكاديمي. ان التلكؤ بحل المسألة المالية جعل الدولة تلجأ لـ”المعالجة بالقطعة” ابتداء من الاستثناءات وانتهاء باقتراض الجامعات. وهذا باعتراف أكثر من وزير للتعليم العالي واكثر من رئيس جامعة ساهم بتراجع التعليم العالي عن المستوى الذي تستحقه الأردن وتطمح إليه.
وحتى تتحقق العدالة بين الطلبة وحتى تستقر الجامعات في الجانب التمويلي، فليس هناك من بديل دائم سوى السير في برنامج وطني متواصل للتمويل، لا يتغير مع تغير الحكومات والافراد، وفي الاطار التالي:
أولاً: ان تبادر الحكومة إلى عقد اتفاقيات مع البنوك، لمنح الطلبة الراغبين قروضا ميسرة بفوائد لا تتجاوز الـ2 % وبحد اعلى يقترب من الـ3000 دينار سنوياً، على ان يبدأ التسديد بعد 3 سنوات من تخرج الطالب. وبذا، تخف الأعباء المالية على العائلات، وفي الوقت نفسه، يصبح من الممكن تعديل الرسوم الجامعية دون ارهاق اولياء امور الطلبة. وهذا النظام معمول به في الكثير من دول العالم.
ثانياً: ان تخصص كل جامعة جزءا من ايراداتها السنوية (5 %) لإنشاء صناديق استثمار ينفق من عائداتها على الجامعة.
ثالثاً: العمل على انشاء وقفية أو اكثر(غير قابلة للتصرف) لكل جامعة رسمية او خاصة، بمساهمة الشركات والمؤسسات الكبرى والمنح والمعونات والمواطنين، وتكون هذه المساهمات معفاه من الضرائب.
رابعاً: تخصيص اراض للجامعات لاستثمارها والإفادة من العائدات.
خامساً: عقد اتفاقيات بين الحكومة والشركات الكبرى والبنوك، بخاصة التي تعمل في المحافظة التي تقع فيها الجامعة لتخصيص جزء من مخصصات “المسؤولية المجتمعية للشركات” لتذهب الى الجامعة.
سادساً: توسيع فرص التعاقد مع الجامعات لإنجاز دراسات او أبحاث وفق تعاقدات مناسبة.
سابعاً: تعزيز التعاون بين الجامعات الرسمية والجامعات الخاصة والقطاعات الاقتصادية المختلفة.
ثامناً: اعادة رسوم الجامعات لتدخل في صندوق التعليم وليس الخزينة.
تاسعاً: التوسع والتطوير والتحسين لحاضنات الأعمال والمنتزهات العلمية.
عاشراً: انشاء صندوق خاص للتعليم.
الحادي عشر: زيادة الرسوم بنسبة 50 % للطلبة الوافدين كما هو معمول به في معظم دول العالم.
الثاني عشر: العمل على ترشيق الجهاز الاداري في الجامعة على مدى 5 سنوات بحيث لا تتعدى نسبة الاداريين الى الاكاديميين (1:1) وبذلك يمكن تخفيض النفقات الادارية وزيادة كفاءة التشغيل.
ان المستقبل يتطلب كثيراً من الاستثمارات في التعليم العالي، ابتداء من تكوين الهيئة الاكاديمية العالية الكفاءة، مروراً بالتمكن من المهارات التخصصية، والتوسع في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي وحاضنات الاعمال، وانتهاء بالإبداع والاختراع. وتقدر الاستثمارات الجديدة 7500 دينار لكل طالب جديد.
إن الجامعات في وضعها الصحيح تتجاوز كونها تعطي الطالب المعلومات، كأنها مدرسة عالية، الى بناء شخصية الطالب حسب امكاناته الفردية وحسب مواهبه الكامنة، وتمكينه من المهارات اللازمة، حتى يستطيع ان يكون قادراً على المنافسة وخلق العمل لنفسه في الثورة الصناعية.
وإذاك من شأن الجامعات ان تخلق فرصا اضافية للاقتصاد الوطني تقدر بـ12.5 % من الناتج المحلي الاجمالي، وتتمثل تلك الفرص في نتائج البحث والتطوير والابداع والمساهمة في حل المشكلات الكبرى التي تواجهها الدولة والمساهمة في التحول نحو الاقتصاد الصناعي وتطوير الادارة والخدمات، واعطاء دفعة قوية للزراعة والمياه والطاقة والتصاميم الصناعية وبراءات الاختراع.
ان تمويل الجامعات بشكل مستقر يتطلب حزمة الاجراءات التي تمت الاشارة اليها وهنا يتوقع ان تشكل الحكومة فريق عمل متخصص بالتمويل لوضع التفاصيل الخاصة بالمفردات أعلاه، حتى تباشر المؤسسات والجامعات في تطبيقها. وبهذا يمكن للدولة ان تخرج من دوامة التمويل العشوائي ليجري التركيز على وضع الحلول لكل من اشكاليات القبول والتنافس بين الطلبة وامتحان التوجيهي.

خبير تربوي*

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري