فكرت ملياً في ما آلت إليه الأوضاع العربية من تراجع كبير في التأثير الإقليمي والعالمي، وحتى على مستوى العلاقات العربية العربية والتضامن الداخلي، لا بل زادت أوضاع العرب سوءاً بعد أن تفسخ النسيج الاجتماعي داخل البلدان أنفسها، ولا شك بأن كل ذلك لم يكن صدفة، بل جاء ضمن مخطط قديم هدفه السيطرة على مقدرات الشعوب العربية، وهنا لا أتبنى نظرية المؤامرة بل هي حقيقة نعيشها كل لحظة، ونرى آثارها المدمرة على الشعوب العربية وعلى القضية الفلسطينية بشكل خاص.
أؤمن بأن جامعة الدول العربية هي الحاضنة الطبيعية لكل الدول العربية، وبالرغم من كل ما قيل عنها وعن دورها وقدرتها بالحفاظ على الحد الأدنى من التضامن العربي، والدفاع عن القضايا العربية، إلا أن دورها سيبقى مهماً في الفعل على الساحة العربية والإقليمية والدولية، وبخاصة أن الأمين العام للجامعة العربية، السيد أحمد أبو الغيط، الذي أعرفه جيداً، هو شخصية عروبية بإمتياز، وله رصيد وطني كبير ومميز في الدفاع عن المصالح العربية، وأعتقد جازماً بأنه قادر، رغم كل الظروف المحيطة، بأن ينهض ثانية بدور الجامعة العربية ويعيد لها دورها الفاعل والمطلوب في هذه الفترة الحساسة من تاريخ الشعوب العربية، فهذه المؤسسة العربية الجامعة استطاعت أن تعمل الكثير لأجل القضايا العربية من خلال التشبيك مع المؤسسات الإقليمية والعالمية، ووأدت العديد من النزاعات العربية العربية وهي في مهدها، وحاولت وعملت من أجل حل الصراع العربي الإسرائيلي من خلال مبادرات عديدة اعتبرت اختراقاً مهما مثل مبادرة فاس عام 1982، ومبادرة السلام العربية عام 2002.
لا شك بأن الظرف الذي يعمل به هذا الرجل الصادق والوطني صعب لا بل صعب جداً ومعقد، وبحاجة إلى شخص ذو حكمة وإرادة لكي ينهض بهذا الواقع ويحمل الشعوب العربية إلى بر الأمان، وهي صفات متوفرة في السيد أبو الغيط، وله من الخبرة والمهارة السياسية والدبلوماسية ما يمكنه من فعل ما قد يبدو مستحيلاً في ظل هذه الظروف وهو إعادة التضامن العربي ووقف التطبيع المجاني مع دولة الاحتلال، وهذا بحاجة إلى دعم من طرف القوى الوطنية في البلدان العربية وهي موجودة وناشطة ولكن بحاجة إلى إطار تنسيقي يجمعها لكي يوفروا الظروف المناسبة للجامعة العربية وأمينها العام لإعادة الاعتبار للمبادئ التي قامت عليها الجامعة العربية، ولكي يحموا أنفسهم من هذا “الغول” القادم ليلتهم خيرات هذه البلدان ويستعبد شعوبها.
لقد كان مؤتمر الحركة الصهيونية في بازل عام 1897، هو بداية استهداف الشعوب العربية، ولا أقول هنا أنه بداية استهداف الشعب الفلسطيني لوحده، حينما أقر إقامة “دولة يهودية” على أرض فلسطين، فلا شك أن الهدف كان أكبر وأعمق من إقامة “دولة يهودية” في فلسطين لأن الخرافات الدينية في إقامة “الدولة اليهودية” من النيل إلى الفرات كانت حاضرة وبقوة في عقلية الحركة الصهيونية التي وظفت هذه الخرافات لصالح مشروعها الاستعماري بكل تفرعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لقد استطاعت الحركة الصهيونية، واستكمالا لمؤتمر بازل، أن تأخذ من حكومة بريطانيا، حين التقت مصالحهم الاستعمارية، وعد بلفور في الثاني من نوفمبر عام 1917، والذي أسس بشكل فعلي لإقامة “دولة إسرائيل” على أرض فلسطين عام 1948، وما نتج عن ذلك من تشتيت للشعب الفلسطيني وضرب تركيبته الاجتماعية، في محاولة من الحركة الصهيونية إلى إنهاء الوجود الفلسطيني بشكل فعلي من خلال سياساته المستمرة لغاية الآن في القتل والتدمير والتهجير والمصادرة وبناء المستعمرات وتهويد الأماكن والأسماء، ليس فقط في مدينة القدس بل على امتداد أرض فلسطين التاريخية، وأكملت كل ذلك بسن قانون القومية وقانون الدولة اليهودية.
مع تدمير العراق بعد اجتياحه من الولايات المتحدة الأمريكية، واختراع داعش واخواتها، ليس فقط في العراق وإنما في ليبيا وسوريا، ومحاولة زعزعة الأمن في جمهورية مصر العربية وفي تونس وفي أكثر من بلد عربي، تحت مسمى “الربيع العربي”، تهيئ الظرف المناسب للحركة الصهيونية لكي تبدأ في تنفيذ خطتها في المنطقة العربية، ولكن بعد فشل كل محاولات تدمير سوريا، -لأنه لو تم تنفيذ المخطط المرسوم من أجل إنهاء سوريا، لسقطت بعدها جبهة المقاومة العربية مثل أحجار الدومينو -، بدأت الحركة الصهيونية وبشكل محموم العمل على تطبيع علاقاتها مع الأنظمة العربية في محاولة لإختراق الوعي العربي باتجاه تصوير “إيران” بأنها هي العدو المشترك، وللأسف هناك دول عربية ربطت مصيرها بدولة الاحتلال وتعتبر أن أمن واستقرار دولة الاحتلال جزء من أمن هذه الدول واستقرارها، تحت حجة “العدو المشترك”، متناسية في ذات الوقت الهدف النهائي للمشروع الصهيوني هو إقامة الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات، وأن العدو المركزي والأساسي للشعوب العربية هو المشروع الصهيوني، وليس إيران أو غيرها من دول الإقليم.
تعمل الحركة الصهيونية وفق خطة، وليس بناء على ردات فعل، وهذا يعني أنه لا يمكن مواجهتها إلا من خلال خطة مضادة، وأساس هذه الخطة الحفاظ على حاضنة العرب الأولى وهي الجامعة العربية، فيجب عدم السماح لأي كان أن يفككها أو أن يهمش دورها، لأن تفكيكها يعني تشتت العرب وضياع قضاياهم وإنهاء الأساس الذي يحمي الشعوب العربية، ويعطي الحركة الصهيونية مزيداً من الغطرسة في اختراق الأنظمة العربية بالتطبيع معها سواء تحت ذريعة العدو المشترك، أو تحت ذريعة تطوير قطاع الزراعة أو الصناعة أو الاقتصاد حماية لهذه البلدان من الجوع والفقر.
إن ضرب أساس عمل الحركة الصهيونية يبدأ في انتزاع الشرعية عن إعلان بلفور الذي على أساسه قامت “دولة إسرائيل”، والتي هي السرطان الذي سينتشر في المحيط العربي ويؤسس للدولة اليهودية مدعوماً من الولايات المتحدة الأمريكية التي هيأت لها الأجواء من خلال صفقة القرن، وسخرت كل إمكانياتها لصالح إحداث اختراق تطبيعي مع الدول العربية ونرى الآن نتائج ذلك، وهذا جرس إنذار يجب أن ننتبه له جيداً بأن الحركة الصهيونية بدأت بشكل فعلي وعملي التغلغل في البلدان العربية وتحاول بكل السبل كي الوعي العربي، لكن في المقابل لنا كل الفرص بأن ننتزع الشرعية، وقد بدأت وبمبادرة فردية بعدها انضم اليّ العديد من الأخوة لإقامة دعوى قضائية ضد بريطانيا على إصدارها لإعلان بلفور واستطعنا أن نحصل على حكم قضائي من القضاء الوطني الفلسطيني بإدانة حكومة بريطانيا، ونعمل حاليا على مقاضاة حكومة بريطانيا أمام المحاكم البريطانية، وكلي ثقة بأن هذه الخطوة ستشكل حجر زاوية في خلخلة الأساس التي قامت عليه “دولة إسرائيل” وفي خلخلة الإستراتيجية التي تتبناها الحركة الصهيونية لاختراق العالم العربي وصولاً إلى إقامة “الدولة اليهودية” من النيل إلى الفرات، لأن هذا الإعلان غير أخلاقي وغير قانوني، لا بل أيضا عنصري واستعماري ويخالف الطبيعة البشرية ويضرب الإنسانية في مقتل.
إنني أدعو أخي السيد أحمد أبو الغيط، أمين عام جامعة الدول العربية، إلى تبني وتعميم هذه الفكرة رسمياً، وتحشيد دعم شعبي لها من أجل مقاضاة بريطانيا على إصدارها لإعلان بلفور أمام المحاكم العربية، لما لهذا الأمر من بعد استراتيجي مقاوم للفكر الصهيوني، وأيضا تبني فكرة الإعلان عن يوم الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام يوم حداد وطني أو يوم غضب شعبي، في العالم العربي، وأن تقوم الفعاليات الرسمية والشعبية في كل دولة عربية بتنظيم فعاليات تفضح الجريمة التي قامت بها بريطانيا بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية جراء إصدارها إعلان بلفور.
لا أخلي طرف الفلسطينيين من المساهمة في تراجع قضيتهم ليس فقط أمام العالم وإنما على مستوى الدول العربية أيضاً، ولا أخلي طرفهم أيضا في المساهمة بتغول وتغلغل الحركة الصهيونية في البلدان العربية، لأنهم، وأقول هذا آسفا، صنعوا بأيديهم ما أطلقت عليه “بلفور 2” وهو الانقسام الذي عاد بالقضية الفلسطينية إلى الوراء وخسرنا وما زلنا نخسر الكثير من إستمراره، مدركين بأن الدور المصري الذي عمل منذ البداية على إنهاءه، وما زال يعمل هو دور مهم وأساسي ويجب أن يستمر فمصر العروبة قدمت الكثير للقضية الفلسطينية ودفعت من دماء أبنائها الكثير لأجل فلسطين والقضايا العربية، ولا زالت
ونحن في هيئة النوايا الحسنة لإنهاء الانقسام، قمنا بإعداد وثيقة لإنهاء الانقسام مبنية على أساس ما تم الاتفاق عليه فلسطينياً منذ اتفاق مكة عام 2006، ولغاية اجتماعات الأمناء العامين في القاهرة في العام الحالي، ونالت هذه الوثيقة مباركة الشقيقة مصر والشقيقة الأردن التي نرحب بدورها الإيجابي تجاه إنهاء الانقسام ودعم الشعب الفلسطيني، ونقول بأن الشقيقة مصر هي ضامنة للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وأن جهودها في ملف إنهاء الانقسام هو أساس ولا يمكن إلا أن تنهيه لأن هذا ليس فقط مصلحة فلسطينية وإنما مصلحة مصرية وعربية للتخلص من وعد “بلفور2″، ونتفضى بعدها للتخلص من وعد بلفور الرئيسي لأنه يهدد الأمن القومي العربي ويستهدف خيرات وشعوب العالم العربي وليس فقط الشعب الفلسطيني وأرضه، وهذا الأمر يتطلب تحشيد الجهود العربية الرسمية والشعبية في مواجهة الفكر الصهيوني، وأقول لجميع العرب أرجوكم أفيقوا وتذكروا مقولة “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.