عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
أتذكر أنني حين كنت في المرحلة الاعدادية احضر لي قريب قادم من عمًان قطعة قماش من الصوف كتب عليها “هيلد” وكان لونها بني فاتح، وقال: خذ هذه وفصل لك بها بنطلونات، وبالفعل ذهبت في اليوم التالي مع ابي إلى الخياط “ابو فرح” وفصلت بنطلونين، انتظرتهما بفارغ الصبر اسبوعين حتى استلمتهما قبل العيد الذي كان من المناسب ان ألبس فيه الجديد.. حين عدنا الى المدرسة انتبه الطلاب إلى ملابسي وأعجبهم بنطلون “الهيلد” الذي سألوا عنه وارادوا مثله ، وحين اخبرتهم اننى فصلته ولم اشتره جاهزاً احسوا بالخيبة، فهم يريدون ان يشتروا مثله جاهزاً، وكان أحدهم قد غضب وفي اليوم التالي جاء مع والده الى المدرسة وقال: لماذا لا تريد ان تخبرنا من أين اشتريت بنطلونك؟ فقلت له : فصلته من قماش يمكن ان توصي او تشتري القماش من محلات قريبة من الجامع الحسيني وترسله للخياط، وهذا ما حدث حتى اذا ما جاءت نهاية العام كان معظم طلاب الصف قد لبسوا “الهيلد” الذي ساعدهم لتحمل برد الشتاء كونه من الصوف ومن القماش الثقيل.. كل الصنف لبس “الهيلد” مع اختلاف الالوان وقصات البنطلون..
“الهيلد” استمر لسنوات طوال وأصبح ماركة مسجلة، وكلمة على الالسن قبل ان يختفي من السوق والمصنع الذي انصرف لانواع اخرى واستمر يزود الجيش والقوات المسلحة..
مضى الآن على هذه القصة اكثر من نصف قرن، ولا اعتقد ان أحداً من جيلنا لم يلبس “الهيلد” أو لم يكن له معه قصة..
عدت الى موطن “الهيلد” في شركة مصانع الاجواخ الاردنية المساهمة في الرصيفة، ولم أجده ولكني وجدت من كانوا في صناعته ورغبت أن يحدثني المدير العام لشركة الأجواخ الاردنية عن نشأه وتطور الهيلد ومصدر تكوينه وخيوطه وقماشته قبل ان تختفي وتحل انواع اخرى مكانه..
هذه الاقمشة هنا هي من الاجواخ.. دون ان أهتدي الى معنى ودلالة كلمة “جوخ” وهل لها علاقه بكلمة “جخة” التي هي صفة من صفات الحال الجيدة والمميزة..
وحين عدت الى قواميس اللغة وجدت ان جوخ اسم وجمعها اجواخ، وجاء في المصطلح انه غطاء كثيف من الصوف اي نسيج من الصوف، ونعود الى الصناعة العريقة التي مضى عليها اكثر من نصف قرن، واختارت ان تكون على سيل الرصيفة قريبا من السكة في الطريق الى الزرقاء، لحاجة صناعة الصوف الى الماء خاصة وان خيوطه التي كانت تأتي جاهزة بحاجة الى استمرار العناية بها الي ان تغزل وتتحول..
مازال سمير علمات المدير القديم المتجدد في ادارته وعقليته يقود المصنع الذي تناوب على زيارته وحتى اليوم فيه العديد من ابناء المعشر اصحاب هذه الصناعة وعلى رأسهم نديم المعشر…
علمات الذي ذكرنا بقدم هذه الصناعة وتحولاتها قال: لكننا نتابع كل جديد في مجال صناعتنا.. وسرد علينا قصة البدايات في عام 1962 ، وقد كان رأس المال للشركة 325 الف دينار، وهي أقدم شركة مصنعة للأقمشة في الاردن، وقد أنتجت جميع أنواع الاقمشة الصوفية والمخلوطة والصيفية والشتوية وخاصة الاقمشة العسكرية ،فقد تعامل المصنع مع القوات المسلحة وزودها بانتاجه لسنوات قبل ان يبدأ طرح الاستمرارية على مجلس الادارة، وفي المسيرة الطويلة تطورت الشركة كثيراً وأدخلت تقنيات جديدة يستلزمها القماش والاصباغ ونوعية الخيوط.. وكان أن فصل النشاط الصناعي للشركة لتؤسس شركة لهذا برأس مال عشرة ملايين دينار اردني، وقد تم انتخاب عماد يوسف المعشر رئيسا لمجلس الادارة وبقي السيد سمير عوده الله علمات المدير العام الذي يحفظ تفاصيل التفاصيل في هذه المسيرة الصناعية، وما واجهها في طريقها الطويل الذي ظلت تتطلع فيه الى تطوير نفسها والانتقال الى مراحل اخرى..
بقي ان نقول ان هذه الصناعة التي كانت حجر زاوية اساسي في الصناعات الاردنية مازالت قائمة وما زالت تؤثر على بدايات كان يمكن مواصلتها واغنائها بصناعات اخرى لو استمرت لكان الحال مختلفا، ولكانت الهوية الاقتصادية الاردنية مختلفة ايضا.