القدس قبل كل شيء /منيب رشيد المصري

من المعلوم أن الحركة الصهيونية هي حركة لا دينية، ولكنها ترتكز على النصوص التوراتية في حشد أصحاب الديانة اليهودية خلفها، فهذه النصوص تعتبر المكون الرئيسي لنظرة اليهود تجاه المدينة المقدسة “القدس”، فبحسب الديانة اليهودية هي عاصمة الاله الذي لا يمكن له إلا أن يُعبد فيها، “الرّب اختار صهيون واشتهاها مسكناً له”.
واستطاعت الحركة الصهيونية أن توظف الدين اليهودي سياسياً باعتبار أن القدس هي “أرض الرب”، وبنت فكرها الاستعماري الاحلالي على أساس أن القدس “سيفيض منها الخير إلى السماء ومنها يوزّع على بقية العالم, وهي الملكوت الذي سيحكم العالم ولا يفصلها أي فاصل عن الإله، وتصعد أدعية اليهود من خلالها”، لذلك نسمع عبارة “إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني”، عبارة شكر للرب يرددها اليهود بعد الأكل.
لا أريد الدخول في موضوع التحريف في النصوص الدينية من عدمه، ولكن أريد القول بأن توظيف الدين في استعباد شعب آخر، واستعمار أرضه، والعمل على محو وجوده، ليس من الدين في شيء، ولا يمكن، ومن غير المسموح أن نتجاوب مع الفكر الصهيوني في تحويل الصراع إلى صراع ديني، لأن ذلك ليس من الحقيقة في شيء، القضية الفلسطينية قضية تحرر وطني ولا يمكن حرفها أو تسميتها بغير هذا الاسم.
إن ما تتعرض له مدينة القدس حاليا من أسرلة وتهويد ومحو معالمها المسيحية والإسلامية لم يكن وليد صدفة بل كل ما يجري حاليا هو مخطط له منذ مؤتمر بازل 1897، حيث يقول هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية: “إذا قُدِّرَ لنا يوماً أن نمتلك القدس، وأنا على قيد الحياة وكنت قادراً على أن أفعل أي شيء، فسوف أدمر كل ما هو غير مقدس عند اليهود فيها”، ويقول بن غوريون، وهو اول رئيس وزراء لحكومة إسرائيل: “إن القدس الصهيونية هي جزء عضوي وغير منفصل عن تاريخ وديانة وروح شعبنا، إن القدس هي القلب الذاتي لدولة إسرائيل, إن علاقتنا اليوم مع القدس لا تقل أبداً عن عمق تلك العلاقة التي كانت موجودة أيام نبوخذ نصّر وأن إسرائيل لن تتخلى عن القدس، تماماً كما لم تتخل خلال آلاف السنين عن إيمانها وهويتها الوطنية وأملها بالعودة للقدس وصهيون”.
منذ احتلال إسرائيل لمدينة القدس في حزيران عام 1967، بدأت هذه التوجهات بإيجاد طريقها إلى أرض الواقع، فانطلقت أكبر عملية تزوير وتحريف للتاريخ والجغرافيا والديمغرافيا شهدتها الإنسانية، فالهدف النهائي لدولة الاحتلال هو إفراغ المدينة من سكانها الأصليين وتحويلها إلى مدينة “يهودية” خالصة، وعزلها بالكامل عن محيطها الفلسطيني والعربي.
وبالرغم من أن مجلس الأمن الدولي، ومنذ العام 1948، وحتى الآن أصدر قرابة (100) قرار تتعلق بمدينة القدس، وكان من أهمها قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم (2334) أواخر ديسمبر 2016، والذي أكد على عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، ومطالبته إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، بوقفها فورا، وأن تحترم بشكل تام جميع التزاماتها القانونية في هذا المجال.
إلا أن عمليات الاستيطان والأسرلة والتهجير والاعتقال التعسفي للفلسطينيين في القدس الشرقية، وفرض غرامات مالية عليهم وعدم اعطائهم تراخيص للبناء وهدم بيوتهم وإبعادهم عن المسجد الأقصى في مقابل إحلال الإسرائيليين مكانهم، كل ذلك ما زال ممارسة منهجية تقوم بها إسرائيل بشكل دائم بل ومتصاعد، ولا سيما منذ قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في ديسمبر 2017 بنقل سفارة بلاده إلى مدينة القدس باعتبارها العاصمة الموحدة لدولة إسرائيل، ما بدا وكأنه ضوء أخضر لسلطات الاحتلال الإسرائيلي للاستمرار والتصعيد في انتهاكاتها ضد الفلسطينيين في القدس.
لا شك بان دولة الاحتلال تتجه الآن إلى تنفيذ مشروعها المسمى “متروبوليتان القدس”، الذي اقرته حكومة الاحتلال عام 1998، ويهدف هذا المشروع إلى توسيع حدود القدس حتى البحر الميت ومشارف أريحا، وجنوبا حتى مداخل الخليل، وشمالا حتى سهل مستعمرة “شيلو” الواقعة في منتصف الطريق نحو مدينة نابلس، وتحويل حاضرة إسرائيل المركزية من منطقة “غوش دان” في تل أبيب والمركز إلى القدس، مع إقامة فنادق ومنتجعات سياحية ضخمة، ومطار ضخم، ومجمعات تكنولوجيا عليا، في القدس الكبرى، وتوسيع المستعمرات بما يطوّق مدينتي رام الله وبيت لحم من جميع الجوانب، وسيعزل المشروع مدينة الخليل عن بيت لحم، وسيمزق وحدة الأراضي الفلسطينية بما يجعل من الاستحالة إقامة دولة فلسطينية متواصلة في حال استمراره، هذا المخطط سينتهي العمل به في عام 2050.
يكرس هذا المشروع عمليا القدس “كقلب ومركز للشعب اليهودي ومجمعا روحيا لليهود في العالم”، مما يعني استثناء من هو غير يهودي من الحق في المدينة، وهذا يعني تهجير السكان الفلسطينيين وخفض نسبتهم في القدس إلى ما دون الــ 5%، وإعطاءهم حقوق فردية باعتبارهم غير يهود، وهذه نسخة مصغرة من وعد بلفور الذي جاء في نفس المضمون ولكن على مستوى فلسطين التاريخية.
في ظل هذه المعطيات المرعبة، ماذا نحن فاعلون؟، أعتقد بأنه ومن أجل مجابهة هذه المخططات وهذه السياسات يجب علينا كفلسطينيين ابتداءً توحيد جهودنا الهادفة إلى حماية المدينة المقدسة وعاصمة دولتنا العتيدة، فالجهود الحكومية يجب أن تتوحد مع جهود القطاع الخاص والأهلي، ووضع برنامج عمل وطني، من أجل تحشيد وتوحيد الجهود العربية والإسلامية من صناديق ووقفيات وهيئات وغيرها من المسميات الهادفة إلى دعم مدينة القدس، ووضعها في قالب واحد ضمن خطة عمل شاملة مدعومة مادياً وبمبالغ تستطيع أن تجابه ما تضعه الحركة الصهيونية من أجل السيطرة على المدينة، وأعتقد أن هذا الأمر ممكن وسهل إذا ما كان هناك إرادة للعمل عند جميع الأطراف المحلية والعربية والإقليمية والإسلامية، وإبعاد أي مصالح سياسية عن هذا الدعم.
لا أدعي بأنني الأحرص على مستقبل هذه المدينة، بحكم أن هناك من دفع حياته ودمه وحريته للحفاظ على فلسطينية هذه المدينة والدفاع عنها، فهم أكرم منا جميعاً، ولكن وخلال مسيرتي شكلت القدس بالنسبة لي الهم الأكبر، فهي عاصمة دولتنا العتيدة التي ضحى من أجلها الشهداء والجرحى والأسرى، وهي لُب صراعنا مع دولة الاحتلال التي تسخر كل إمكانياتها لتهويد مدينة القدس وتهجير أهلها، ولذلك حرصت على دعم مدينة القدس وإطلاق المبادرات لأجلها، وقد كنت على تواصل دائم مع أمير القدس الشهيد فيصل الحسيني، الذي وجهني لمجموعة من العقارات والأراضي المهددة في التسريب فقمت بشرائها على الفور، ولاحقا أطلقت وأخواني مبادرة “نعبر أسوارك يا قدس” من خلال مؤسسة التعاون من أجل دعم المدينة المقدسة، وفي عام 2015 أسست ومجموعة من الأخوة صندوق ووقفية القدس ليكون أول مؤسسة تنموية مستقلة تعنى بشؤون مدينة القدس، ونجحنا عام 2020 بتأسيس أول وقفية للقدس بالشراكة مع البنك الإسلامي للتنمية برأس مال 100 مليون دولار وما زلنا نمضي وسنمضي لإطلاق مزيد من المبادرات الدعم القدس وتعزيز صمود أهلها.

هذه الجهود قياساً بما ترصده الحركة الصهيونية لا تذكر، ولكنها في ذات الوقت يمكن أن تشكل خطوة مهمة لتجميع كل من يعمل من أجل القدس في حاضنة واحدة، وهنا أوجه دعوة مفتوحة لكل شرفاء العالم بأننا في صندوق ووقفية القدس نحرص على توحيد وتكامل جهود كل من يعمل لأجل القدس، على قاعدة القدس قبل كل شيء، وإذا ما استطعنا ذلك ضمن خطة عمل واضحة وشاملة مع تأمين مصادر مالية لها، يمكن لنا أن نقف في وجه الحركة الصهيونية، وأنا سأعمل ما حييت من أجل تحقيق هذا، لأن التاريخ لن يرحم أحداً تخاذل عن دعم القدس وحمايتها.

Related posts

الموازنة العامة.. تعزيز الثقة والاستمرار في تنفيذ الإصلاحات*د. محمد أبو حمور

مشهد بائس يتطلب التدخل* ماهر أبو طير

مجدّو أمريكي! أرمجدون انتخابي؟* بشار جرار