عروبة الإخباري – كتب منيب رشيد المصري
منذ حزيران من العام 2007، والشعب الفلسطيني يتم استنزافه بسبب حالة الانقسام الذي بنظري هو موازي لوعد بلفور الذي وضع الأساس لنكبة الشعب الفلسطيني وتأسيس “دولة الاحتلال” عام 1948، فكان الانقسام نكبتنا الثانية، لكن الفرق هذه المرة أننا صنعناها بأيدينا نحن.
ولا أريد الخوض بحجم الخسائر البشرية والمادية والسياسية والاقتصادية والنفسية التي لحقت وما زالت تلحق بنا جراء هذه الجريمة الوطنية الكبرى التي أدخلت الشعب الفلسطيني في نفق مظلم نحاول الخروج منه بأقل الخسائر منذ أكثر من خمسة عشرة عاماً.
لا أريد الدخول في تفاصيل مقدمات الانقسام وأسبابه، بل الخوض في كيفية الخروج من هذا النفق، وفي سبيل ذلك، ومنذ اليوم الأول، أبحث عن طريق آمن للخروج من هذا النفق المظلم، ومن هذه الحالة التي لا تخدم سوى الحركة الصهيونية، ومن يقف معها.
منذ استشهاد القائد الرمز أبو عمار، الذي تربطني به علاقة تاريخية قوية، شعرت بأن القضية الفلسطينية أصبحت يتيمة، وأن هناك من يريد أن ينقض على إنجازات ونضالات الشعب الفلسطيني، وبعد انتخاب الأخ الرئيس أبو مازن في العام 2005، رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، استبشرنا خيراً، ولكن جاءت الأحداث المحلية والعربية والدولية، بما لا يريد الشعب الفلسطيني ورئيسه المنتخب، فالحصار المالي الذي أدى إلى سوء المعيشة، والأوضاع الأمنية الداخلية المتدهورة وبخاصة في قطاع غزة، هذه الأوضاع خلقت في نفسي القلق على المشروع الوطني برمته، وأصبح إنقاذه واجباً على جميع الفلسطينيين في الوطن والشتات.
كان لا بد من إيجاد طريقة ما للعمل مع الأخوة الذين استشعروا بهذا الخطر في وقت مبكر وقبل حصول الانقسام، فقمنا بعقد العديد من الاجتماعات مع مكونات الشعب الفلسطيني، ودار نقاش داخل مجموعة صغيرة جداً من الفلسطينيين من الداخل والخارج، المهتمين والمتابعين لمجريات الأمور، نساء ورجالاً، من غير المستقلين، تمخض عنها ولادة “منتدى فلسطين” الذي عمل على إخراج أول مبادرة لإنهاء الانقسام والتي سميت بمبادرة القطاع الخاص لإنهاء الانقسام، وتوالت بعدها المبادرات والتي كان من أهمها مبادرة الوفاق الوطني التي صاغها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال بقيادة القائد مروان البرغوثي وإخوانه من قيادات الفصائل الفلسطينية، وكانت تتماهى في مبادئها مع مبادرة القطاع الخاص.
جرت مياه كثيرة في النهر منذ بداية الانقسام، وعُقدت عشرات الاجتماعات، والتفاهمات، بما فيها اتفاق القاهرة 2011، واتفاق الشاطئ 2014، والاتفاق بين حركتي فتح وحماس عام 2017 في بيروت و القاهرة ، وكان آخرها اجتماع الأمناء العامون في القاهرة برعاية الشقيقة جمهورية مصر العربية، والذي خرج بجملة من التفاهمات التي كان يمكن أن تقود إلى إنهاء الانقسام، والتي كان أولها إجراء الانتخابات العامة بالتوالي تبدأ بالانتخابات التشريعية، ومن ثم الرئاسية، ومن ثم المجلس الوطني، وأنا شخصيا، وبحكم أنني شاركت مع الأخوة تقريبا في جميع هذه الفعاليات، لا بل كنت ومن خلال التجمع الوطني للشخصيات المستقلة من المبادرين إلى الدعوة إليها مثلما حصل في اتفاق الشاطئ 2014، أرى بأن الانتخابات كانت ممكن أن تشكل فرصة ذهبية لبداية الخروج من هذا النفق المظلم، إلا أن هذه الانتخابات لم تجري، وتم إيقاف كل التفاهمات التي خرج بها اجتماع الأمناء العامون في القاهرة.
ومن خلال متابعتي الحثيثة، ومن خلال عملي اليومي لإنهاء الانقسام دون كلل، لأنني أعتبر أن الانقسام هو مقتل المشروع الوطني، وبدون إنهاءه لن تقوم للشعب الفلسطيني قائمة، فهو بالنسبة لي ومعظم الشعب الفلسطيني بالداخل وبالشتات قضية حياة أو موت، ولكن أقول هي حياة وليس موت، لأنني على قناعة تامة بأن هذه الصفحة السوداء سوف تطوى، أقول بأن جميع الاتفاقيات والتفاهمات بين طرفي الانقسام هي مبادئ عامة يصعب الاختلاف عليها، ولكن المصالح الشخصية والحزبية والفئوية، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية حالت دون التوصل لغاية الآن إلى اتفاق ينهي الانقسام.
إن قناعاتي القائلة بأن الانقسام يوازي وعد بلفور في آثاره المدمرة على القضية الفلسطينية، هذه القناعات تدفعني للعمل المتواصل لإنهاء آثار النكبة الثانية المسماة انقسام، لذلك قمنا ومجموعة من الأخوة الحريصين على ترتيب البيت الداخلي ولم شمل الفلسطينيين وتوحيد كلمتهم لمواجهة ما يحاك ضد المشروع الوطني بتشكيل هيئة النوايا الحسنة لإنهاء الانقسام والتي بدأت عملها في شهر آب الماضي، واجتمعت مع الأخ الرئيس أبو مازن، وشخصيات وازنة في حركة فتح، وأيضا اجتمعت مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الأخ إسماعيل هنية والأخوة في المكتب السياسي للحركة، وأيضا عقدت عدة اجتماعات في محافظات الوطن والشتات، من أجل تحشيد الجميع لإنهاء الانقسام، وقد عرضت اللجنة على الجميع الوثيقة التي أعدتها من أجل إنهاء الانقسام، والتي تستند أساساً إلى جملة الاتفاقيات والتفاهمات السابقة، ونالت هذه الوثيقة ثقة وثناء الجميع، بما فيها الشقيقة مصر، والشقيقة الأردن.
وأقول وبكل ثقة، بأن اللجنة ستواصل عملها حتى تحقيق هدفها الأخلاقي والوطني في إنهاء الانقسام، رغم كل الصعوبات التي تواجهها، وأقول أيضاً، بأن هناك من لا يريد النجاح لهذه اللجنة، وهم قلة قليلة، لكن الغالبية الساحقة تدعم عمل اللجنة التي تحاول أن تزيل كافة العقبات من طريق تحقيق الوحدة الوطنية، وأقول بأن الخلافات ليست عميقة إلى درجة التعقيد، وهذا يعطينا أمل بأن نواصل العمل مع جميع الأطراف في سبيل جسر الهوة، نحن في هيئة النوايا الحسنة لإنهاء الانقسام ومن يؤيدنا لسنا وسطاء بل شركاء، لذلك نضع نصب أعيننا المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني الذي ضحى وما زال من أجل حريته وكرامته وعودته.
كلي إيمان بأن هيئة النوايا الحسنة لإنهاء الانقسام، هي بارقة أمل جديدة لكل الحريصين على المشروع الوطني الفلسطيني، فلا يوجد أدنى شك بأن استمرار الانقسام يعني ببساطة ضياع القدس، وزيادة وتيرة الاستيطان، وتحويل الضفة الغربية إلى معازل سكانية، وفصل الضفة الغربية عن القدس بشكل نهائي وفصل القدس والضفة الغربية عن قطاع غزة المحاصر، وإنهاء حل الدولتين، ومنع أي أمل في حل الدولة الديمقراطية الواحدة، وتجسيد فعلي لحلم الحركة الصهيونية بإقامة الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات.
لهذا وأمور أخرى كثيرة أقول لكل قيادات الشعب الفلسطيني بكافة قطاعاتها وتسمياتها أفيقوا من هذا السبات العميق، وهبوا لكي نخرج سويا من هذا النفق، ولنحفر طريق الخروج بإصرارنا وعزيمتنا وإرادتنا، كما فعل أبطال سجن جلبوع، فهم عشاق الحرية التي صنعوها بأيديهم، رغم كل الصعوبات ورغم المستحيل استطاعوا صنع المعجزة، ليكونوا لنا قدوة ولنفعلها قبل فوات الأوان، وبخاصة أن الظروف المحلية مواتية جداً بعد هبة الشيخ جراح، ومعركة سيف القدس، والالتحام غير المسبوق بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد على امتداد فلسطين التاريخية وفي الشتات، حين قال الكل الفلسطيني في القدس وفي نابلس وبيتا وفي عكا واللد والرملة والجليل والنقب وأم الفحم وفي مخيمات اللجوء نحن شعب واحد ولن تستطع سياسات الحركة الصهيونية وبعد 73 عاماً أن تفرقنا أو تًنسينا حقنا في العودة والدولة، هذه اللُحمة غير المسبوقة بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد على اختلاف فكرها وانتمائها شكلت فرصة فريدة في الإعلان عن إنهاء الانقسام، ولكن السؤال لماذا لم تقم القيادات الفلسطينية وأعني فتح وحماس أولا باستثمار هذه الفرصة؟ ألا يتطلب إهدار هذه الفرصة مسألة شعبية لهذه القيادات، التي تسببت بخسارات مُركبة للشعب والقضية، وأهدرت أعمار وآمال وأحلام جيل كامل؟.
كذلك وفي ذات السياق فإن الظروف الدولية وإن كانت لا تزال لصالح “دولة الاحتلال” إلا أن هناك مؤشرات عديدة تدلل على أن المجتمع الدولي أصبح أكثر حساسية أخلاقية وقانونية تجاه ما تفعله دولة الاحتلال، ومثال ذلك ما تم أمس حين صوت حزب العمال البريطاني باعتبار إسرائيل دولة فصل عنصري، وهنا نُعبر عن تقديرنا واحترامنا لهذا الحزب الذي غلب فيه الجانب القانوني والأخلاقي على الجانب السياسي المصلحي في توجهاته، فقرار الحزب، يخدم الدعوى القضائية المنوي رفعها من طرفي على بلفور أمام القضاء البريطاني، وهو نقطة بداية مهمة لنا كفلسطينيين أن نبني استراتيجية جديدة في التعامل مع الرأي العام الغربي الذي، وإن كان بشكل بطيء، يتحول لصالح قضيتنا من منطلق أن الاحتلال غير أخلاقي وغير قانوني. وإذا ما أضفنا إلى قرار حزب العمال البريطاني، الذي ندعمه بكل قوة، ونشكر الحزب على تبنيه، فإن هناك مجموعات أخرى داخل بريطانيا تعمل على تعرية وعد بلفور وتبيان عدم أخلاقيته وعدم قانونيته، وتدعم نضالات الشعب الفلسطيني الذي لا زال يقاسي من تبعات هذا الوعد وهنا لا بد من شكر وتقدير عمل هذه المجموعة التي تُسمي نفسها (balfour project)، بالإضافة إلى بعض المجموعات اليهودية التي تعارض الاحتلال، وتدعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
لا شك بأن الظروف الداخلية وأيضا الخارجية يمكن البناء عليها وتوظيفها لصالح إنهاء الانقسام، ودعم نضالات الشعب الفلسطيني لنيل حريته، ولدينا إمكانيات كثيرة تخدمنا في عملنا لإنهاء الانقسام الذي هو عدا عن كونه قضية وطنية مصيريه، فهو قضية أصبحت بالنسبة لي قضية شخصية، وأنا عاقد العزم وبجهود جميع إخواني في هيئة النوايا الحسنة والأخوة السابقين ، أن أعمل حتى أطوي هذه الصفحة السوداء من تاريخ الشعب الفلسطيني، فلا أستطيع أن أرحل عن هذه الدنيا وشعبي منقسم على نفسه، وأعلم تماماً أن بدون الوحدة الوطنية لن نستطيع أن نخطو خطوة واحدة تجاه تحقيق أهدافنا الوطنية، واطلب من الله العلي القدير أن يمدني بالصحة والقوة حتى أحقق هذا الهدف، ومن ثم أرحل عن هذه الدنيا وأقول للشهداء جميعاً، بما فيهم أخي وصديقي ورئيسي ياسر عرفات، وأخي وحبيبي الشيخ أحمد ياسين، بأن المهمة قد أنجزت، وننام جميعا في قبورنا قريري العين.