يسعى الأردن، ومنذ سنوات، الى تطوير المنظومة السياسية، خاصة بعد أن أثبتت تجارب الكثير من دول العالم، أن الدولة الحديثة لا تقوم ولا تتقدم إلا على قواعد مستقرة من العقل العلمي، والإدارة الحصيفة الملتزمة بالتغيير، والمؤسسية، وتشبيك القطاعات، والمشاركة في صنع القرار في إطار ديمقراطي سليم. فالدول الأكثر نجاحاً، هي الدول الديمقراطية التي يجري فيها تداول سلمي للسلطة من خلال الأحزاب الوطنية، صاحبة البرامج التي تصل الى الحكم من خلال صوت المواطن، دون أي نوايا مبيتة للاستئثار والانفراد. وتتحقق إنجازاتها من خلال تكامل السلطات والعمل المشترك مع المؤسسات كافة. وتتحدث التقارير الدولية عن أكثر من 90 دولة تصنف دولا ديمقراطية يتعدى فيها دليل الديمقراطية 50 %، في حين تفتقر المنطقة العربية لذلك بشكل كلي.
وبالمقابل، فإن تجربتنا في الأردن أثبتت أن “الإدارة الفردانية” التي تقوم فيها الحكومة على أفراد لا يربط بينهم برنامج مسبق، لا تستطيع أن تواجه المتطلبات المعقدة للدولة، وتخفق في تطوير الاقتصاد أو تحديث التعليم أو مواجهة البطالة أو استثمار رأس المال البشري، وغالبا ما يتمثل أداؤها في إنجازات جزئية ومتقطعة.
وتعمل اللجنة الملكية، منذ أسابيع، على وضع القواعد العملية لتحديث المنظومة السياسية للوصول الى الحياة الديمقراطية الحقيقية. ولذا شكلت اللجنة 6 لجان هي الأحزاب والانتخابات والشباب والمرأة والإدارة المحلية والتعديلات الدستورية.
وهنا، لا بد من التنبه في وقت مبكر الى أن الديمقراطية تتألف من مكونات متعددة، ينبغي تطويرها وإدارتها والعمل على تعزيزها. بمعنى أن الديمقراطية ليست عنصراً واحداً هو الأحزاب أو الانتخاب، وإنما تتكون من (1) نظام سياسي سليم وعادل لاختيار الحكومات واستبدالها (2) انتخابات حرة ونزيهة (3) مشاركة فاعلة للمواطنين في السياسة والحياة المدنية من خلال (4) الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، (5) حماية حقوق الإنسان لجميع المواطنين، (6) حكم القانون.
ولأن الديمقراطية هي عملية سياسية اجتماعية قانونية مؤسسية ديناميكية، فإن المسيرة الديمقراطية تكون مرشحة دائما لأن تتعثر هنا وهناك أو يصيبها الجمود أو الخلل في واحد أو أكثر من مكوناتها، وبالتالي تقع الدولة والمجتمع في أزمة قد تكون مدمرة. ذلك أن بعض الأحزاب، وخاصة الإيديولوجية منها، بعد نجاحها في الانتخابات تستأثر بالسلطة وتبدأ في تدمير مكونات الديمقراطية تحت ستار أنها جاءت الى السلطة بانتخابات حرة، كما حدث في ألمانيا حين استأثر النازي بالسلطة، وكما نشهد اليوم في تونس. ونلاحظ أن معظم الزعماء الذين استبدوا في بلادهم وقبيل هزيمتهم دمروا البلاد وقتلوا العباد، هتلر والقذافي وعلي صالح أمثلة. لقد كانت تونس رائدة في التحول الديمقراطي العربي (دليل الديمقراطية 63 %)، ولكن ما يجرى فيها اليوم يثير أسئلة كثيرة حول إشكالات الديمقراطية.
هل من حق الحزب الفائز أن يفعل ما يريد؟ ويقرر ما يريد؟ باعتبار أنه مفوض من الشعب؟ هل هناك بديل عن الديمقراطية؟ بالتأكيد ليس من بديل أفضل. صحيح أن الديمقراطية قد تصاحبها بعض العثرات ولكن الحل ليس في التراجع والنكوص، وإنما في وضع ضوابط للأداء تكون هي المرجع وليس مجرد الانتخابات.
وقبل الدخول في الضوابط، لا بد من معرفة الأسباب التي تؤدي الى انزلاق الحكم نحو السلطوية أو الدكتاتورية والابتعاد عن المسار الديمقراطي، خاصة وأن الأقطار العربية جميعها تعاني هذه الإشكالية. ولعل الحالة التي وصلت إليها بلدان عربية عدة تعطي أمثلة على انزلاق الدولة نحو التفكك نتيجة لغياب الديمقراطية أو لانعدام الضوابط والتوازنات في العمل الديمقراطي ومن ثم الاستغراق في الاستقطاب الطائفي والفئوي والاستقواء بالأجنبي كما هو الوضع في لبنان، التي كانت حتى السبعينيات من القرن الماضي نموذجا للبلد الحر المنفتح الذي يتمتع مواطنوه بكل متطلبات الديمقراطية.
تعود أسباب تعثر الديمقراطية الى عوامل كثيرة في مقدمتها. أولاً: مقاومة الدولة العميقة للتحولات المنشودة من خلال قوتها الخفية في جسم الإدارة. وهذا يثير سؤالا حول الإرادة الحقيقية للتغيير. ثانياً: وقوف النخبة المستفيدة من الحالة السائدة والحكم الفردي في وجه كل تحول، واختلاق الأسباب والأعذار للعودة الى الوراء. وهذا يستدعي مكافحة الفساد الإداري والمالي بأشكاله المختلفة. ثالثا: الاستقطاب والانقسام، سواء كان فئوياً أو طائفياً أو دينياً أو جهوياً، ما يؤثر سلباً في كل مفردات تحديث المنظومة السياسية وهذا يتطلب الخطاب التربوي الثقافي الإعلامي الذي يجمع المواطنين. رابعاً: سوء أداء الإدارة الحكومية، ما يخلق حالة من عدم الثقة بين المواطن والإدارة، تتحول الى لا مبالاة وعدم اكتراث بالتغيرات اللازمة، الأمر الذي يتطلب المباشرة في إصلاح إداري حقيقي. خامساً: ضعف حكم القانون وضعف السلطة القضائية وعدم استقلالها، وهذا يستدعي تعزيز استقلال القضاء وتطبيق القانون بحزم ومساواة. سادساً: انتشار خطابات التطرف والشعبوية والاستعلاء والتشكيك خدمة لأغراض سياسية غير معلنة. وهذا يتطلب البرامج الثقافية والتربوية والإعلامية التي تقوم على الاعتدال والعقلانية. سابعاً: السياسات الاقتصادية السيئة التي تشيع الفقر والبطالة وتدني دخول الأفراد والمؤسسات. الأمر الذي يجعل تصنيع الاقتصاد أمراً بالغ الأهمية.
كل ذلك يتطلب من اللجنة الملكية أخذ هذه الأسباب بعين الاعتبار، واقتراح الضوابط التي تمنع حدوثها. كما يتطلب من الحكومة وضع السياسات والبرامج والإجراءات التي من شأنها إبطال أسباب تعثر الديمقراطية. وحتى يمكن بناء الأرضية المناسبة للانطلاق الديمقراطي، فإن الحكومة يفترض أن تعمل بقوة على تنشيط الاقتصاد والإصلاح الإداري.
لقد شكلت اللجنة الملكية 6 لجان، في مقدمتها لجنة المرأة ولجنة الشباب، بهدف تعظيم مشاركتهما في العملية الديمقراطية. وتكون الكتلتان معاً 75 % من المجتمع. إن المسألة البالغة الأهمية في هذا المجال ليس فقط عدد النساء والشباب في البرلمان، وإنما الأهم هو تمكين كل من النساء والشباب من متطلبات الديمقراطية. فتمكين المرأة يتمثل في استكمالها منظومة الحقوق الخاصة بها لتكون مساوية للرجل والاهتمام من الدولة والإعلام بثقافة المساواة والتكافؤ بين الجنسين وحرية الحركة والانتساب الى الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني. أما تمكين الشباب فهو لا يتحقق إلا من خلال انخراط الشباب في العمل وخدمة المجتمع في منظمات المجتمع المدني بأنواعها، والأحزاب دون خوف أو تردد، وخدمة العلم ولو لفترة زمنية محدودة (9 أشهر) حتى تنصقل شخصية الشباب في إطار القانون والانضباط. يضاف الى ذلك الثقافة والعلم، وهما من أسس الدولة الحديثة.
وعلى الدولة أن تراجع الأداء في حقوق الإنسان، وخاصة في مجال الحريات. ويمكن للمركز الوطني لحقوق الإنسان أن يضع برنامجاً للحكومة للإفادة منه في تعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون. فعلى الرغم من الجهود التي تبذل هنا وهناك، إلا أن مؤشر الفساد ما يزال مرتفعاً ودليل حكم القانون متوسطاً.
ومن جانب ثالث، فإن منظومة الضوابط والتوازنات تحتل أهمية خاصة في العمل الديمقراطي والمنظومة السياسية السليمة التي توازن بين المصلحة الوطنية وبين ما تطرحه الأحزاب من توجهات. وتتمثل عناصر الضوابط والتوازنات في ثلاثة مكونات رئيسية. الأول: القوانين والتشريعات ومن خلال الممارسة الفعلية من جميع الأطراف. الثاني: التوافق على مدونات سلوك للأحزاب والقوى السياسية من جهة، والإدارة العليا والوسطى في الدولة من جهة ثانية، بحيث تؤكد هذه المدونات الحدود التي ينبغي أن يقف عندها كل طرف. الثالث: أن تكون معايير الأداء هي المؤشرات والأرقام الدولية، التي أصبحت تغطي كل تفاصيل العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
إن التحول نحو الديمقراطية السليمة الفاعلة هو جوهر تحديث المنظومة السياسية، والطريق الوحيد نحو المستقبل المزدهر. ولكن ذلك يتطلب تضافر الجهود من جميع الأطراف لمعالجة مختلف التفصيلات حتى يمكن تحقيق النجاح.