دائما ما يتصدر التقاعد المُبكر مشهد النقاش لأي توجه رسمي لتعديل قانون الضمان الاجتماعي على اعتبار انه مكسب لا يجوز المساس به من قبل الشارع.
التقاعد المُبكر تشوه حقيقي في هيكل الضمان الاجتماعي والحماية الاجتماعية للمشتركين، فأكثر من 60 % من متقاعدي الضمان هم من فئة التقاعد المُبكر، مما يشكل عبئاً مالياً كبيراً على التدفقات المالية للضمان، بسبب استنزافه لموارد مالية تذهب في غير أوجهها الصحيحة في التقاعد والحماية الإنتاجية الرشيدة.
لا يوجد في العالم تقاعد مُبكر بهذا الشكل المستنزف لخزينة الضمان كما هو الشكل المعمول فيه بالأردن، فرغم أنه تم رفع سن التقاعد إلى 50 عاماً للذكور و45 عاما للإناث، ووضع ضوابط عدة على هذا النوع من التقاعد وحدد المهن التي بموجبها يسمح لعامليها بالتقاعد المُبكر، إلا أن المشكلة ما تزال على حالها دون أي توقف، وما تزال للأسف هي المُسيطرة على المنحى العام لحجم المتقاعدين في الضمان الاجتماعي.
المُشكلة الكبرى في التقاعد المُبكر ليس في أن يَترِكَ الشخص عمله ويتقاعد، لا بل إنه يعود للعمل مباشرة بعد أن يَحصل على هذا النوع من التقاعد، فغالبية متقاعدي الضمان الاجتماعي يتقاعدون لتحسين ظروف أمنهم المعيشي، وهذا حقهم في البحث عن أفضل السبل لتحسين دخلهم من خلال الحصول على التقاعد المُبكر، مصحوبا بدخل إضافي من عمل جديد قد يكون العمل السابق الذي تقاعد منه، والقانون الأخير حدد ضوابط لعودة المتقاعدين مُبكرا للعمل ونظم عودتهم أيضا لنظام التقاعد، لكن العملية لم تصوب بالشكل المطلوب بدليل استمرار ارتفاع أعداد المتقاعدين مُبكراً.
السبب يعود في ارتفاع أعداد المتقاعدين مُبكرا لقلقهم على مستقبلهم، والخوف من أن يحدث شيء سلبي لا سمح الله للضمان الاجتماعي، إذ دائما ما تكون الإشاعات تُحرك قرارات المتقاعدين، كما يحصل الآن.
التقاعد المُبكر، هو حق أصيل لفئتين فقط هما؛ الشريحة التي تتطلب أعمالها تقاعداً مُبكراً بسبب ظروف صحية تؤثر عليهم بشكل سلبي، مما يؤثر على استمراريتهم بشكل طبيعي.
والفئة الثانية تتعلق بأولئك الذين يتم تسريحهم من أعمالهم لأسباب مختلفة وهم في سن لم يصلوا فيه لسن الشيخوخة، وبالتالي وجب على المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي ان تراعي ظروف هذه الشريحة التي فقدت أعمالها قسراً بإعطائها حق التقاعد المُبكر.
غير ذلك لا يجوز لأي من كان أن يحيل نفسه إلى التقاعد المبكر لكونه بلغ سن التقاعد، فهذا فيه غبن ومخالفة لقيم العمل، علماً ان كاتب هذه السطور ممن يستفيد من التقاعد المبكر بالشكل الحالي، لكنني أخجل ان أتقدم للتقاعد المُبكر كوني بلغت السن القانونية التي تؤهلني لذلك.
التقاعد المُبكر هو استثناء وليس عاما، فالعام هو تقاعد الشيخوخة فقط لا غير، أما التقاعد المُبكر فهو ظاهرة فيها من الفساد الإداري والمالي ما يسمح بإلغائه نهائياً نتيجة الممارسات التراكمية التي حصلت من قبل غالبية من تقاعدوا مُبكراً، فهم بالأساس وأنا أتحدث عن الغالبية العظمى التي لم تتقاعد نتيجة رغبتها في الاستراحة بعد سنوات من العمل، بل لأن القانون السابق كان يسمح لِكُل من بلغ 45 عاما وبعدها 50 عاما في التعديل الأخير بالتقاعد المُبكر والحصول على ما يقارب الـ75 بالمائة من راتبه الإجمالي الخاضع للاقتطاع، ومن ثم يعود ذات الشخص المُتقاعد مُبكراً للعمل من جديد وقد يكون في ذات المنصب والعمل السابق قبل التقاعد بعقد عمل جديد، وبذلك يكون انتفى السبب الأساس والرئيس للتقاعد بهذه الممارسات السلبية.
التقاعد المُبكر ليس آفة مالية على خزينة الضمان فقط، وإنما عامل أساسي أيضا في تنامي مُعدلات البطالة، فالمتقاعدون على النظام المُبكر والذين في غالبيتهم يعودون للأعمال ويستحوذون على غالبية فرص العمل التي كان بالإمكان أن تذهب لجيل آخر من الخريجين الداخلين لسوق العمل.
إلغاء التقاعد المُبكر أمر ضروري ويجب أن يكون في أسرع وقت لكن وكما قلنا سابقاً، يجب تنظيم حقوق العاملين في المهن الخطرة بشكل واضح وتأمين للذين فقدوا أعمالهم ولم يتمكنوا من الحصول على وظيفة لأسباب قسرية، وغير ذلك لا حجة أبداً للتقاعد المُبكر.