لحظة فلسطينية فارقة /لميس أندوني

من المشين أن نسمع مسؤولاً فلسطينياً، هو حسين الشيخ، يطمئن الأميركيين والإسرائيليين بأن الأجهزة الأمنية الفلسطينية لن تسمح بتكرار عملية زعترة التي نفذها الأسبوع الماضي شاب فلسطيني عند حاجز لجيش الاحتلال، وقتل فيها مستوطن وثلاثة إسرائيليين آخرين. وهذا كلام تعوّدنا عليه، لكنه هذه المرة جاء في سياق معركة مفصلية في القدس، واعتراف غير مسبوق من منظمات حقوقية دولية بأن إسرائيل تمارس نظام الفصل العنصري.

الشعب الفلسطيني والمتضامنون العرب والنشطاء الأجانب يحققون انتصارات ملموسة على الأرض وفي العالم، ويأتي مسؤول فلسطيني ليقول لصحيفة نيويورك تايمز إن الوضع تحت السيطرة، في تصريحاتٍ تعدّ طعنة لنهوض فلسطيني، لم ينتبه صاحبها، حسين الشيخ، إلى أهمية هذا النهوض في هذه اللحظة الفلسطينية الفارقة، لأن الرجل مسكون برضى الأميركيين والإسرائيليين.

ما يحدث في حي الشيخ جرّاح وفي محيط المسجد الأقصى في القدس المحتلة انتفاضة قد لا تتوسع، لكنها تجاوزت خطاب السلطة الفلسطينية التي تعتقد أن تأجيل الانتخابات التشريعية قد أنقذها من احتمال خسارة القائمة الرسمية لحركة فتح، فلم تنتبه إلى أن خسارتها الحقيقية هي عجزها وتخاذلها بالتعامل مع واقع تمرد الشعب الفلسطيني على قيود اتفاقيات أوسلو والتنسيق الأمني “غير المقدس”.

الأهم أننا تشهد إنجازات قد تكون صغيرة في مسيرة التحرير، لكنها كبيرة في ظل وضع عربي مستسلم، وتطبيع وصل إلى حد التصديق على الرواية الصهيونية والتحالف مع إسرائيل، بعد ضربات الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، من اعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، وضم الجولان السوري المحتل ودعم غير مسبوق لليمين الإسرائيلي الذي ينفذ عملية ضم أراض في الضفة الغربية وتسارع في تهويد القدس. ولكن هذا كله لم يمنع الشعب الفلسطيني من تصعيد مقاومته، فلم يستسلم لواقع الاستسلام في محيطه، بل استعمل مقاومته الاعتداءات الإسرائيلية دليلا مرئيا على شاشات الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي دليلا دامغا قدمه في محكمة عالمية غير معلنة، ونجح في إدانة إسرائيل، فتقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الذي أكد ارتكاب دولة الاحتلال اضطهادا وتمييزا عنصريا ليس كرما منها، وإنما هو حق انتزعه الشعب الفلسطيني. ولسنوات، ساهمت ضغوط صهيونية على هذه المنظمة الحقوقية بتخفيف حدّة بعض تقاريرها عن الاحتلال، خصوصا وأن إدانة إسرائيل تؤثر على مصادر تمويل المنظمة، لكن تمادي إسرائيل ومقاومة الشعب الفلسطيني، والحملات العالمية، إن كانت من حركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس) أو حملات التضامن وجهود حقوقيين فلسطينيين وعرب وأجانب شكلت عاملا ضاغطا معاكسا، يستمد ثقله من الصمود الشجاع للفلسطينيين على الأرض، ومن تفوق الخطاب الحقوقي لنضال الشعب الفلسطيني على عنصرية النظام الكولونيالي الصهيوني ولا أخلاقيته. وقد اعتبرت “هيومن رايتس ووتش” إسرائيل بممارسة جريمتي حرب ضد فلسطينيي 48، الذين بقوا في الأراضي التي بنيت عليها إسرائيل بقوة السلاح، وضد فلسطينيي الأراضي المحتلة منذ عام 1967، بما فيها القدس، وذلك بممارسة سياسات الفصل والتمييز العنصري (الأبارتهايد)، وهي الكلمة التي دفعت إسرائيل ملايين الملايين من دعاية سياسية وضغوط لمنع أن تلتصق بها.

التقطت الأمم المتحدة التقرير، وطالبت إسرائيل بوقف التهجير القسري لأهالي حي الشيخ جرّاح في القدس، واعتبرت هذا الفعل قد يقترب من جريمة حرب. وسنرى خطواتٍ قد تحرّر منصات عالمية كثيرة من سطوة التأثير الصهيوني، وقد تحرج الدول العربية التي غالت في التهليل للتطبيع مع إسرائيل، لكن منبع القوة هو استمرار الصمود البطولي الذي يشترط وقف السلطة الفلسطينية التنسيق الأمني مع إسرائيل، وتقديم شهادات سلوك إلى واشنطن وتل أبيب.

ما قالته “هيومن رايتس ووتش”، وقبلها المنظمة الإسرائيلية الحقوقية “بتسليم”، حقيقة يعرفها الشعب الفلسطيني ويعيشها، وقد عقدت منظمة التحرير خلال السبعينيات والثمانينيات مقاربة في خطابها بين نظامي الأبارتهايد العنصري الذي ساد في جنوب أفريقيا حتى 1995 والنظام الصهيوني، وكان الغرب، حتى بعض الحركات التقدّمية فيه، ما عدا الشيوعية منها، يرفض هذه المقاربة، مع أن إسرائيل كانت الحليف الاستراتيجي للنظام العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا. وإلى فترة طويلة، رفضت الحكومات الغربية إطلاق مصطلح الأبارتهايد على ذلك النظام، ورفضت الحملات التي دعت إلى مقاطعته وشيطنتها، واعتبرت الزعيم التاريخي لحركة مناهضة العنصرية في جنوب أفريقيا، نيلسون مانديلا، إرهابيا، لكن نضال مناهضي نظام الفصل العنصري انتزع اعتراف العالم، وإن تأخرت الولايات المتحدة، بضرورة إسقاط ذلك النظام.

المفارقة أن الثورة الفلسطينية انتزعت، بفضل نضالات الشعب الفلسطيني ودعم حلفائها، قرار الأمم المتحدة عام 1975 يساوي الصهيونية بالعنصرية، أي إدانة دولية وأخلاقية للمشروع الصهيوني. ولم يكن ذلك ممكنا من دون دعم الاتحاد السوفييتي في حينه. وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي، وتغير الاتجاه السياسي لدول عديدة، نجحت الولايات المتحدة في عام 1991 في إلغاء القرار، وبدأت حملة معاكسة ترى في مناهضة الصهيونية عداءً للسامية، وبذلك لوم الضحية على وصف جلادها بالجلاد.

نشهد الآن تحولا جديدا وجدّيا، لا بد من البناء عليه، خصوصا وأنه على الرغم من الانقسامات الفلسطينية، واتساع الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة وفي العالم، نرى اعترافا جديدا من جهاتٍ كانت تخشى أي لغة شبيهة، أو حتى تعبيرات أقلّ وضوحا من الفصل العنصري. وهذا لا يعني اعترافا بحقوق الشعب الفلسطيني، التاريخية والوطنية، لكنه تحوّل في غاية الأهمية، يوجِب تصعيدا في حركات المقاطعة، ليس في الدول الغربية فحسب، بل في كل القارّات، وتركيزا خاصا على الدول العربية.

لم تنجح الحملات في الدول العربية باستقطاب قاعدة جماهيرية واسعة، لأسباب عديدة، منها الخوف من القمع، ومحاولة بعض حركات المقاطعة عدم الاصطدام بالأنظمة، وإن من الصعب الاستمرار بذلك، حتى لو كان مفهوما من حيث الخشية من الاضطهاد أو العقاب، لكن من دون أن تصبح حركات المقاطعة جماهيرية، وأن تضع الأحزاب والنقابات المهنية والعمالية ثقلها بها، سيكون لها تأثير محدود. ولكن لا يمكن إضاعة الوقت، لأن حملات المقاطعة والمقاومة الفلسطينية على الأرض انتزعت اعترافا لا يمكن تبديده، بل اكتسب الفلسطينيون وكل حركات التضامن دفعة قوة جديدة، توفر دعما وحماية أخلاقية في مواجهة محاولة إسرائيل والولايات المتحدة تجريم حركات المقاطعة، فممارسات الفصل العنصري لا تُهزم إلا بالمقاطعة، كما علمتنا تجربة جنوب أفريقيا، وأيضا أن المقاطعة ليست بديلا للمقاومة على الأرض بكل أشكالها، أو عن حركة التحرّر الوطني.

النضال الفلسطيني يمرّ بلحظة فارقة، أساسها نهوضٌ مقاوم على الأرض، طابعه لا عنفي، لكن إدانة عمل مقاوم فلسطيني مسلح مرفوض ومدان، فميثاق الأمم المتحدة يؤكد على شرعية كل أشكال المقاومة للشعوب التي ترزح تحت الاحتلال، فلا يحق للسلطة الفلسطينية استنكار أي عملية فدائية، فيما تستمر بالتنسيق الأمني مع المحتل. ومن المخزي أن تدعو “هيومن رايتس” إلى وقف هذا التنسيق وتتمسّك به السلطة الفلسطينية. لكنها لحظة فارقة، يسطّرها المقاوم على أرض الوطن وكل مناضل من أجل الحق الفلسطيني في العالم، قد تكون الأسابيع المقبلة مؤلمة، فالنضال مكلف بالدماء والأرواح، لكنها لحظة أمل في أن ينهض الشعب الفلسطيني بإحياء حركة تحرّره الوطني، واسترجاع منظمة التحرير الفلسطينية من سجّانيها.

Related posts

الرئيس عباس واليوم التالي!

رئيس حزبي لمجلس النواب العشرين*أ. د. ليث كمال نصراوين

من يدفع فاتورة الحرب وكيف نتعامل مع آثار العدوان؟* حسين الرواشدة