عروبة الإخباري – خلص تقرير لمنظمة “هيومن رايتس واتش”، صدر اليوم الثلاثاء، إلى أن السلطات الإسرائيلية تمارس “الأبارتهايد” والاضطهاد، وبذلك ترتكب جرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين، بحسب القانون الدولي وتعريفه. هذا الاتهام يُشكّل سابقة، فهي المرة الأولى التي تصف فيها المنظمة السلطات الإسرائيلية بارتكاب “الأبارتهايد”. وجاء التقرير أو الدراسة المفصلة في أكثر من مئتي صفحة استغرق البحث وجمع المعلومات والتحليلات من أجلها سنوات، بحسب المنظمة.
ويوثق التقرير عمليات تمييز وفصل عنصري ممنهج ضد الفلسطينيين على أساس انتمائهم، سواء كانوا في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، أو من فلسطينيي الداخل، مع تفاوت مستويات اضطهادهم حتى داخل المنطقة الواحدة. ويقدّم التقرير عدداً من التوصيات للأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية والمجتمع الدولي، بما فيها الدول التي تدعم إسرائيل عسكرياً. ويؤكد ضرورة أن يعيد المجتمع الدولي النظر في علاقته مع إسرائيل واعتماد نهج يتمحور حول حقوق الإنسان والمساءلة.
تقرير المنظمة ووصف الممارسات الإسرائيلية بالأبارتهايد، قد يكون “متأخراً” من وجهة نظر فلسطينيين وحقوقيين دوليين مدافعين عن حقوق الفلسطينيين، فهؤلاء ناشدوا منظمات حقوق الإنسان الدولية القيام بذلك منذ مدة. لكن هذا لا ينفي أهمية التقرير، خصوصاً في الغرب والولايات المتحدة تحديداً. ومن المتوقع أن يتسبب التقرير بهجوم على المنظمة وتشكيك بمصداقيتها وعملها من قبل إسرائيل ومنظمات يمينية، كما دوائر رسمية أميركية، بل حتى أوساط ليبرالية أميركية، ناهيك عن أخرى غربية وأوروبية. وكانت الحكومة الإسرائيلية، ولاحقاً المحكمة العليا، قد صادقت، في نوفمبر/ تشرين الثاني لعام 2019، على طرد عمر شاكر، وهو أميركي من أصول عراقية، يشغل منصب مدير مكتب “هيومن رايتس واتش” في إسرائيل وفلسطين، بادعاء دعمه لحركة المقاطعة، وهو ما تنفيه المنظمة. ويمكن النظر إلى القرار كجزء من سياسات التضييق الإسرائيلية على المدافعين والعاملين في مجال حقوق الإنسان.
تجاوز الحد
يحمل التقرير عنوان “تجاوز الحد: السلطات الإسرائيلية وجرائم الأبارتهايد والاضطهاد”، ويرصد وجود سلطة واحدة (إسرائيلية) تفرض سيطرتها على الجميع، من النهر إلى البحر، وتعيش تحت حكمها مجموعتان تتساويان تقريباً من حيث التعداد السكاني، اليهود الإسرائيليون، 6.8 ملايين، والفلسطينيون (باختلاف أوضاعهم القانونية)، كذلك يصل عددهم لقرابة 6.8 ملايين. ويوثّق التقرير منح السلطات الإسرائيلية لليهود امتيازات منهجية بسبب انتمائهم في مقابل قمع جميع الفلسطينيين، بسبب انتمائهم كذلك، بمستويات مختلفة، أشدها خطورة انتهاكات حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، بحسب التقرير. وعلى الرغم من تطرق التقرير لقضايا اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون خارجها ومنعهم من حق العودة الذي نصت عليه قرارات الأمم المتحدة، إلا أن تركيزه يتعلق بنظام الحكم على الأرض وممارسته.
وقال المدير التنفيذي للمنظمة كينيث روث، بمناسبة صدور التقرير: “لقد حذرت أصوات بارزة ولسنوات من أن نظام (أبارتهايد) يقف أمام منعطف إن لم يتغير مسار الحكم الإسرائيلي على الفلسطينيين”. وأردف “تظهر هذه الدراسة التفصيلية أن السلطات الإسرائيلية قطعت هذا المنعطف بالفعل وهي ترتكب اليوم جرائم (أبارتهايد) واضطهاد ضد الإنسانية”.
وتقف الدراسة مطولاً عند تعريف الأبارتهايد بموجب القانون الدولي، الذي يعتبره جريمة ضد الإنسانية. وتشير في هذا السياق إلى أن وصف النظام الإسرائيلي الحالي بأنه نظام أبارتهايد واضطهاد لا يتنافى أو يزيل اعتبار الوضع القانوني للضفة الغربية وغزة وشرقي القدس كأراضٍ محتلة (عام 1967) ولا يغيّر حقيقة كونه احتلالاً.
وحول تعريف الأبارتهايد، يشير التقرير إلى ظهور المصطلح لأول مرة في سياق نظام الفصل العنصري الذي كان يُمارَس ضد السود في جنوب أفريقيا من قبل المستعمرين البيض. وتؤكد الدراسة أن مصطلح “أبارتهايد” أو الفصل العنصري أصبح اليوم “مصطلحاً قانونياً عالمياً. يشكل الحظر المفروض على التمييز المؤسسي الشديد والقمع أو الفصل العنصري مبدأ أساسياً من مبادئ القانون الدولي. تُعرِّف الاتفاقية الدولية لعام 1973 بشأن قمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها ونظام روما الأساسي لعام 1998 للمحكمة الجنائية الدولية الفصل العنصري باعتباره جريمة ضد الإنسانية تتكون من ثلاثة عناصر أساسية، وهي “أولاً: نيّة الإبقاء على سيطرة مجموعة عرقية على أخرى. ثانياً، سياق من الاضطهاد المنهجي من قبل المجموعة المهيمنة على المجموعة المهمشة. وثالثاً الأفعال اللاإنسانية”. ويعرّف التقرير مجموعة “عرقية” بمعناها الأوسع، كما هو متبع عموماً في أدبيات المماثلة ولدى المنظمة، وليس بالمعنى الضيق للكلمة والجينات، بل بمعنى انتماءات إثنية أو دينية أو أخرى مشابهة.
ووجدت “رايتس واتش” أن العناصر الثلاث للجرائم، آنفة الذكر، تجتمع وتنطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة كجزء من سياسة إسرائيلية حكومية واحدة ضد جميع الفلسطينيين تحت سيطرتها. وتهدف هذه السياسة “لإبقاء هيمنة اليهود الإسرائيليين على الفلسطينيين في جميع أنحاء إسرائيل والأراضي المحتلة، وتقترن بالأراضي المحتلة بقمع ممنهج وأفعال غير إنسانية ضد الفلسطينيين الذين يعيشون هناك”.
وبحسب المنظمة، فإن الدراسة قامت بمقارنة المخططات والقوانين والممارسات التي تقوم بها الحكومة/ات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين من مواطنيها، كما ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، مع تلك السياسات والممارسات والقوانين المتعلقة باليهود الإسرائيليين الذين يعيشون في تلك المناطق نفسها. وترصد الدراسة التصريحات الإسرائيلية الرسمية والعلنية لمسؤولين إسرائيليين كما السياسات التي تتحدث عن الفلسطينيين، في الأراضي المحتلة عام 1967 والداخل، كـ”تهديد ديمغرافي”. ويقتبس التقرير عدداً من تلك التصريحات الرسمية كما يستشهد بممارسات السلطات الإسرائيلية ومخططاتها في مدن كالقدس المحتلة. وتضم الخطط الحكومية الرسمية أهدافاً “للإبقاء على الأغلبية اليهودية في المدينة”، بل وتحدد الخطط نسباً ديمغرافية معينة تأمل بالحفاظ عليها، وإبقاء الوجود الفلسطيني ضمن تلك النسبة، ناهيك عن مصادرة الأراضي واسعة النطاق. في المقابل إتاحة الحد الأقصى من مساحات واسعة ضمن خطط البناء والتوسع المعماري للمناطق اليهودية، في حين يتم زج الفلسطينيين وتركيزهم في تجمعات سكانية خانقة.
تمييز مؤسساتي
يوثق التقرير سياسات إسرائيل التمييزية التي تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة على الفلسطينيين والتمييز ضدهم بشكل مؤسساتي، من ضمنهم الفلسطينيون من “مواطنيها”. ويرصد في هذا السياق القوانين التي تسمح لمئات البلديات اليهودية الصغيرة باستبعاد الفلسطينيين وعدم السماح لهم بالسكن فيها. كما يرصد السياسات التمييزية المتعلقة برصد الميزانيات للمدارس اليهودية الإسرائيلية، مقابل الفتات من الميزانيات التي تخصص للمدارس العربية.
كما يتطرق إلى القمع الشديد الذي يتعرّض له الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها فرض أحكام عسكرية في بعض المناطق، في حين يطبّق القانون المدني على اليهود الإسرائيليين (المستوطنين) في تلك المناطق نفسها، ناهيك عن الفصل بينها بما في ذلك منع الفلسطينيين في الضفة من الوصول إليها، الأمر الذي يتطابق مع تعريف “الاضطهاد المنهجي” بما ينص عليه تعريف الأبارتهايد.
كما يرصد التقرير عدداً من انتهاكات حقوق الإنسان المنهجية الإضافية من قبل السلطات الإسرائيلية، بما فيها “انتهاكات خطيرة للحقوق الأساسية وممارسات غير إنسانية تجعل تلك الممارسات ترقى لممارسات الفصل العنصري بما فيها القيود الشديدة على التنقل في سياق إغلاق (حصار) قطاع غزة، ونظام التصاريح، ومصادرة أكثر من ثلث أراضي الضفة، وفرض ظروف قاسية في أجزاء من الضفة أدت إلى الترحيل القسري لآلاف الفلسطينيين عن منازلهم، وحرمان مئات الآلاف من الفلسطينيين وأقاربهم من حقوق الإقامة (بما فيها لم الشمل)، وتعليق الحقوق المدنية الأساسية لملايين الفلسطينيين”. ويرصد التقرير كذلك انتهاكات إضافية منهجية تعد جزءاً أساسياً من جرائم الأبارتهايد، بما فيها الحرمان شبه الكامل من تصاريح البناء للفلسطينيين في مناطق واسعة بما فيها القدس، مع بعض الاستثناءات، وهدم آلاف المنازل بحجة عدم وجود تصاريح، لا تعطيها إسرائيل أصلاً، ويشير كذلك إلى “تجميد لسجل السكان الذي تديره إسرائيل في الأراضي المحتلة، ومنع لمّ الشمل بين العائلات الفلسطينية، بما فيها بين تلك التي تسكن في الضفة وغزة. كما يستخدم الأمن كذريعة لتحقيق أهداف ديمغرافية”. وتلفت المنظمة الانتباه إلى أنه لا يمكن تبرير سياسات الفصل العنصري بحجج أمنية، كما هو الحال في ما يخص منع استخدام التعذيب والقوة المفرطة بذريعة أمنية.
وخلص المدير التنفيذي للمنظمة في هذا السياق إلى أن “حرمان ملايين الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية، من دون أي مبرر أمني مشروع، وهو نابع فقط من كونهم فلسطينيين وليسوا يهوداً (إسرائيليين)، يعني أن سياسة الاحتلال ليست مجرد مسألة احتلال تعسفي”. وأضاف “هذه السياسات، التي تمنح اليهود الإسرائيليين الحقوق والامتيازات نفسها أينما كانوا، في الوقت الذي تميّز ضد الفلسطينيين بدرجات متفاوتة أينما كانوا، إنما تعكس سياسة منح امتياز لشعب على حساب آخر”.
ويشدد التقرير على أن إسرائيل اتخذت خلال السنوات الأخيرة خطوات إضافية على الصعيد القانوني تكرس تلك الممارسات بما فيها “قانون القومية”، الذي اعتمد عام 2018 وله وضع دستوري ويحدد إسرائيل “كدولة قومية للشعب اليهودي” مع امتيازات متعلقة به. كما تلفت المنظمة الانتباه في هذا السياق إلى قوانين إضافية تمنح امتيازات للمستوطنين في الضفة الغربية على حساب الفلسطينيين الذين يعيشون في تلك المناطق نفسها. إضافة إلى التوسع الاستيطاني الهائل والبنية التحتية التي تدعمه وتربط تلك المستوطنات في الضفة بإسرائيل. ويرى التقرير أنه حتى لو جاء في المستقبل زعيم إسرائيلي يرغب في إبرام صفقة مع الفلسطينيين وتفكيك النظام القائم وسياسة الأمر الواقع التي تفرض، فإن هذا لا ينفي أن النظام الحالي هو نظام أبارتهايد.
خطوات مطلوبة
تقدّم “هيومن رايتس واتش” في تقريرها عدداً من التوصيات، من ضمنها مطالبتها لإسرائيل بوقف وتفكيك جميع أشكال التمييز ضد الفلسطينيين، ووقف منح الامتيازات لليهود الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين، بما فيها حرية التنقل والحصول على الأراضي والموارد والمياه والكهرباء والبناء وغيرها من الخدمات.
كما توصي المنظمة بأن يتخذ المجتمع الدولي خطوات لوقف تلك الممارسات والاضطهاد وجرائم نظام الأبارتهايد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. وترى في هذا السياق أنه على “المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن يتحرّى ويحاكم أولئك الذين يثبت تورطهم بجرائم الاضطهاد والأبارتهايد ضد الإنسانية. على الدول الأخرى أن تفعل ذلك أيضاً طبقاً لقوانينها وبحسب مبادئ السلطة القضائية الدولية، وتفرض عقوبات، ومن ضمنها منع السفر وتجميد الأرصدة، ضد الأفراد المسؤولين عن اقتراف هذه الجرائم”.
وتلفت المنظمة الانتباه إلى أن “ارتكاب إسرائيل لجرائم ضد الإنسانية، بسبب ممارستها لنظام الأبارتهايد، يجب أن يدفع بالمجتمع الدولي لأن يعيد تقييم تعامله مع إسرائيل وفلسطين وأن يتبنّى مقاربة تركّز على حقوق الإنسان والمسؤولية بدلاً من التركيز فقط على (عملية السلام) المعطّلة”. وتشير كذلك إلى أنه “على البلدان أن تؤسس هيئة تحقيق تابعة للأمم المتحدة لتحرّي التفرقة والقمع الممنهج في إسرائيل وفلسطين وتعيين مبعوث أممي حول جرائم الاضطهاد والأبارتهايد عموماً، وبتفويض لحشد الجهود الدولية لإنهاء الاضطهاد والأبارتهايد حول العالم”.
وترى أن “على الدول أن تضع شروطاً على مبيعات الأسلحة والمساعدات العسكرية والأمنية لإسرائيل تلزم السلطات باتخاذ خطوات يمكن توثيقها نحو إنهاء ارتكاب هذه الجرائم. على الدول أن تفحص الاتفاقيات وخطط التعاون وكل أشكال التجارة والتعامل مع إسرائيل لتحديد تلك التي تساهم في اقتراف الجرائم وللتخفيف من تأثيرها على حقوق الإنسان، وكذلك، حين يكون ذلك ممكناً، إنهاء النشاطات والتمويل الذي يثبت أنه يسهّل هذه الجرائم الخطيرة”.
وقال كينيث روث، المدير التنفيذي للمنظمة: “بينما يتعامل معظم العالم مع احتلال إسرائيل المستمر منذ نصف قرن على أنه وضع مؤقت ستعالجه قريباً (عملية السلام)، فإن اضطهاد الفلسطينيين وصل إلى مستوى واستمرارية ينطبق عليها تعريف جرائم الأبارتهايد والاضطهاد”. وأردف “على أولئك الذين يعملون من أجل سلام إسرائيلي – فلسطيني، سواء كان في حل الدولتين أو الدولة الواحدة أو كونفدرالية، عليهم، في الوقت الحالي، أن يعترفوا بالحقيقة كما هي وأن يستخدموا أدوات حقوق الإنسان المطلوبة لإنهائه”.