احتفل كيان الاحتلال الاسرائيلي قبل يومين بالذكرى (73) لاستقلاله ويشكل هذا اليوم موعد انتهاء الانتداب البريطاني في فلسطين وكذلك ذكرى النكبة الفلسطينية التي ما زلنا نعيش آثارها الكارثية ، وانا ما زلت رهينا لفلسطين تستحضر ذاكرتي بجمال مدنها وقراها ، وبطولات أبنائها وصمودهم ، وحقها التاريخي والجغرافي بكل ذرة تراب ، ما زلت رهينا لفلسطين وبضرورة تحريرها من الظلم الذي حل بها منذ تصريح بلفور المشؤوم ولغاية يومنا هذا ، ما زلت رهينا لحمد الحنيطي الذي يجسد نموذجا للبطل العربي ، ولسميح القاسم ومحمود درويش اللذين ما زالا يرسمان الهوية الفلسطينية للجليل والمثلث والنقب رغم رحيلهما ، ما زلت رهينا لكمال جنبلاط البطل الأممي و العربي الفلسطيني الدرزي وما زلت رهينا وأراهن على هذه الحقائق والنماذج التي تؤكد بأننا سنكون على موعد الحرية والاستقلال وبأن الاحتلال زائل لا محال .
قررت في هذا الموعد المشؤوم أن أزور الداخل الفلسطيني المحتل، قررت أن ألقي التحية على مثلث يوم الأرض وجليل فلسطين وأجدد الوعد والعهد لأرضنا وشعبنا ، انطلقت من نابلس جبل النار حيث ولدت وولد الشهداء والأبطال الذي كتبوا تاريخ نابلس بدمائهم وبطولاتهم .
مررت بالقدس التي كلما زرتها ازددت حبا لها ، واستلهمت الصبر والأمل والعزيمة والإرادة من صمودها ، واستنشقت الكرامة والعزة من هوائها ، وتباركت من بركة ترابها ، وتجرعت عبق تاريخها الفلسطيني الأصيل قبل التاريخ .
وصلت لبلدة الطيبة ، طيبة بني صعب ، والتي كانت عبر العصور صعبة على المحتلين والمتآمرين ، وقد بدأت جولتي بزيارة مؤسسة تشرين الشبابية ، والتي بادر بتأسيسها مجموعة من الشباب بهدف إحياء الحياة الثقافية في بلدة الطيبة ضمن مبادرة أصيلة للحفاظ على الهوية ، ومن تشرين توجهت إلى ساحة الشهيد حيث كان في استقبالنا أهالي الطيبة الكرام في هذه الساحة التي تزينت بأسماء المدن الفلسطينية كامل فلسطين من النهر إلى البحر وفي منتصفها نصب تذكاري لشهيد يوم الأرض رأفت الزهيري واستمعت لتاريخ الطيبة وكيف بني هذا النصب وكيف تم الحفاظ عليه في سرير طفلة عمرها ثماني سنوات وقد كانت حاضرة معنا بكل عنفوانيتها وهي مروى جبارة الطيبي ووالدها من خط وكتب على هذا النصب في أجواء تقشعر لها الأبدان .
وفي الطيبة أيضا زرت مقر حركة النهضة الوطنية والتي تعتزم ترميمه وتحويل لمركز التراث الفلسطيني ، هذا المبنى الذي تتحدث حجارته العربية جيدا لتقرأ على جدرانه قصة الشعب الفلسطيني منذ الاف السنين وما زال القائمين عليه ومن اشتروه منذ سنوات يحرصون على إعماره وإحياءه وقد اتفقنا معهم على احتضان هذا المركز لزوايا تخص خليل السكاكيني الذي تعلمت كتابه في الصف الأول والشهيد عبد الرحيم محمود الذي كان لي شرف التلمذة على يديه وقد استشهد في معركة الشجرة .
توجهت إلى حيفا وأنا أتذكر حمد الحنيطي القائد الأردني الذي استشهد في حيفا ، والصديقين محمود درويش وسميح القاسم اللذان عاشا في حيفا ومجموعة من القيادات الوطنية التي ولدت في حيفا أمثال اميل توما وإميل حبيبي وجميعهم جعلوا من حيفا مركزا للنضال والثقافة والحفاظ على هوية حيفا رغم سنوات الاحتلال الطويلة .
مررت بوادي الصليب ووادي النسناس وشارع الجبل ودرج الموارنة وكلها أسماء ما زال أهل حيفا ينطقون بها رغم تحريفها أو تغييرها وكانت أول محطات زيارتنا زيارة مركز مساواة والعديد من المؤسسات الشبابية والثقافية التي تجمعت في هذا المبنى الذي يشكل قلعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى استطاع مجموعة من الأبطال استعادته وشراءه وتحويل إلى صرح ثقافي ووطني ، وفي الإطلاع على تاريخ العقار تفاجأت بأنه كان مقرا للقنصلية البريطانية وبعد ذلك مقرا لشركة النفط العراقية لأتذكر المؤامرة التي بدأت بنقل نفط كركوك إلى حيفا قبل احتلالها أما اليوم فهو يحتضن مجموعة من المؤسسات الوطنية بامتياز .
التقيت في حيفا مع لجنة المبادرة العربية الدرزية ومنهم الشيخ والأسير والمناضل وجمعيهم تحدثوا في النفس الوطني العربي الأصيل وبأنهم جزء لا يتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني ومن هذا النسيج الاجتماعي ، وتحدثنا مطولا عن كمال جنبلاط وفكره ونضالاته وكيف سنتعاون جميعا لبناء مركز ثقافي يحمل اسمه ويرسخ فكره ويساهم في بناء الهوية الوطنية للأجيال الناشئة بشكل عام وأبناء الطائفة الدرزية بشكل خاص .
تجولت في شوارع حيفا وأزقتها التي ما زالت تتكلم العربية أيضا ، وتبادلت الحديث مع شبابها ورجالها ونساءها بين الفترة والأخرى حتى وصلت لأحد الأزقة حيث كان يجلس ثلاث مسنين يتجاوز عمر كل واحد منهم عمر دولة الاحتلال وقد بدأوا بالترحيب والاستقبال والغناء والقاء الشعر حين علموا أنني منيب المصري من نابلس وتذكروا أبو عمار وفيصل الحسيني ، ودون أي مبالغة لقد كان لقاء مؤثرا وحارا للغاية مع ام الياس وأبو الياس .
زرت الفنان الأصيل أبو الأمير عابده واطلعت على لوحاته الرائعة واستمتعت لشهادته حين كان عمره ست سنوات حين هجر قسرا هو وعائلته وما زالت تلك المشاهد المؤلمة حاضرة في ذهنه لا تفارقه ، وقد وافق أن يدلي بشهادته في المعركة القانونية ضد الحكومة البريطانية .
استكملت طريقي وصولا لجالري حيفا في وادي النسناس وقد تشرفت بالمساهمة في دعم وترميم هذا المركز الذي يحتضن إبداعات الفنانة سعاد مخول والتي تذكرنا وتذكر الجميع بالظاهر عمر من بنى حيفا وأسس حيفا قبل الانتداب البريطاني والاحتلال الاسرائيلي .
وفي أزقة حيفا التقيت بإحدى السيدات التي تقدمت لتلقي التحية وتعرف بنفسها أنها الفنانة لورا حوا التي مثلت في فيلم 3000 ليلة والذي أخرجته ابنتي مي ليروي معاناة الأسيرات الفلسطينيات وحينها تعجبت كيف الهم والحلم الفلسطيني يجمع الكل الفلسطيني أينما وجد .
وفي حيفا أيضا استوقفني الفنان بشارة ديب وهو فنان فلسطيني متميز وصانع للآلات الموسيقية ليشرفني بهدية رائعة توشحت بعبارة عائد إلى حيفا ، هذه الهدية أخذتني إلى الراحل غسان كنفاني أحد أعلام فلسطين الذي أنجبته حيفا .
بعد حيفا توجهت إلى عيسفيا البلدة ذات الأغلبية الدرزية وقد حللت ضيفا على مجموعة من الشباب الذين أسسوا معرض وجمعية ثقافية للحفاظ على هويتهم وإبراز إبداعاتهم الفنية والثقافية وقد قلت لهم وبدون مجاملة بأنني أشعر نفسي بأحد المعارض في باريس أو نيويورك رغم أن جهودهم شبابية في فترة قياسية .
آخر محطات يومنا كانت التوجه إلى بلدة شفا عمرو لتناول الإفطار في بيت أحد الشخصيات الرائدة في الداخل الفلسطيني وهو الأخ والصديق عامر صالح والذي دعا إلى منزله مجموعة من رجال الأعمال الناجحين ورئيس البلدية وقد تبادلنا الحديث الذي تمركز حول العطاء لفلسطين ولشعبنا في كافة المجالات ووقعنا في بيته وثيقة تأسيس مركز كمال جنبلاط .
انتهت جولتنا بعد يوم طويل ولكن لم ينتهي أثرها فقد عدت أكثر قوة وأشد عزيمة وإصرار لمزيد من العمل والعطاء عدت مفعما بالتفاؤل والأمل بأن نكبتنا مؤقتة واستقلالهم خرافة ، وعشت يوما جميلا أدركت فيه بأن الارض ما زالت تتكلم العربية ، وكل شبر في فلسطين يتكلم العربية ، “نعم الأرض بتتكلم عربي ” .