عروبة الإخباري – صدر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت وعمّان، وبدعم من جامعة فيلادلفيا الأهلية كتاب معجمي جديد بعنوان (مفاتيح التراث: معجم الأديان والمعتقدات والمعارف قبل الإسلام) للناقد والباحث د. محمد عبيد الله، عميد كلية الآداب والفنون وأستاذ الأدب والنقد بجامعة فيلادلفيا الأهلية. ويقدّم المعجم شرحا معجميا لـ (257) مدخلا معجميا مرتبة ترتيبا هجائيا، في 504 صفحات من القطع الكبير.
ويجد القارئ في هذا المعجم معظم المداخل اللازمة للإحاطة بأديان العرب ومعتقداتهم ومعارفهم قبل الإسلام، ويشمل وفق المؤلّف: أسماء أديان العرب وأصنامهم وأنصابهم وأوثانهم. كما يشمل تسميات الوظائف والجماعات ذات الطابع الديني، وبعض الأساطير والخرافات والممارسات والطقوس القديمة، إلى جانب التعريف بالأماكن والمعابد التي كانوا يمارسون فيها عباداتهم. ويشمل المعجم سبل المعرفة القديمة؛ كالكهانة، والعرافة، والقيافة، والتطيّر، وزجر الطير ونحو ذلك، مما حاولوا من خلاله استشراف المستقبل والاطلاع على الغيب والمجهول. ويكشف عن تصوّر العرب حول الكائنات غير الإنسية من خلال تفسير التسميات التي حفظتها اللغة والأشعار لتلك الكائنات. وفي معارف السماء يعرّف المعجم ببعض مفاتيح الفلك والنجوم والأنواء والأزمنة، وخصوصًا ما كان له صلة بالديانة والمعتقد. كما تعنى بعض مداخل المعجم بمعارف العرب في معالجة بعض الأمراض، وقد اختلط في فهمهم المرض بالاعتقاد، فتصوّروا أن سبب المرض يعود إلى فعل الجنّ أو غضب الآلهة، فلجأوا إلى سدنة الأصنام والكهنة والعرّافين للاستطباب.
ويرى المؤلف أن العرب قد سبقوا إلى إعداد المعاجم وصناعتها منذ القديم، ففي نحو القرن العاشر الميلادي وضع الخليل بـن أحمد الفراهيدي (ت نحو 175هــ) كتاب (العين) أول معجم في العالم وليس في اللغة العربية وحدها. ووُضِعت بعده معاجم متعدّدة المناهج والطرائق، تضمّنت مادّة ثريّة عن حقبة ما قبل الإسلام وما بعده، وفي ضوء محدّدات الفصاحة وصحّة اللغة غدا للشعر والتراث الجاهلي قيمة عالية؛ لأنّه يحقّق تلك المعايير والقواعد أفضل تحقيق، بل يُعدّ شاهدًا على صحّة اللغة وفصاحتها، ويعدّ عنصرًا من عناصر فهمها وإدراك أبعادها. ومن خلال التعريف اللغوي قدّم المعجميّون إضاءات تاريخية ومعرفية ومعلومات موضّحة لكثير من مفاتيح التراث الثقافي والحضاري العربـي قبل الإسلام. ويرى د.عبيد الله أن معجمه ينتمي إلى ذلك التراث المعجمي، وإن كان يختلف عنه في بعض معالم المنهج وطريقة التأليف في ضوء تطور صناعة المعاجم وترتيبها وتحريرها في العصر الحديث.
وعن هذا المشروع الموسوعي المعجمي أوضح المؤلف أن إصداره جزء من مشروع بدأ به من نحو عشر سنوات يهدف إلى الإحاطة بالكلمات المفاتيح لألفاظ التراث الحضاري والثقافي عند العرب، ذلك أن هذه الألفاظ لها قيمة خاصة في المدونة اللغوية لقوة دلالتها على الفكر والوعي العربي. وهناك عدة أجزاء أو كتبت يقوم بتحريرها لتصدر في الفترة القادمة، ومن المتوقّع أن تشمل وفق المؤلف عدة معجمات: معجم مصطلحات اللغة والكتابة والأدب، ومعجم المجتمع والثقافة الشعبـية الذي يضم مداخل حيوية حول: القرابة والنسب والجماعات والزواج، وحول دورة الحياة وثقافة المجتمع، وألفاظ أيام العرب وتقاليد الحرب، وألفاظ الأسواق والبـيوع والمكاييل والأوزان والنقود. وأما معجم الحضارة المادية فيشمل: الأطعمة والأشربة والآنية، والزراعة والبئر والنبات، والصناعة: الأدوات، سلاح العرب. ومعجم الفنون والألعاب والأزياء ويشمل: الرسم والتصوير، النحت والزخرفة والعمارة، الموسيقى والغناء، والألعاب والملاهي، والأزياء والمنسوجات والحلي والزينة والعطور.
وعما يتميز به هذا المعجم وما يضيفه إلى المكتبة العربية يرى المؤلف أن ذلك قد يتأتى من اجتهاده في المواءمة بـين المنهجية المعجمية أو متطلبات الصناعة المعجمية من جهة، والمحتوى المعرفي الحضاري المرتبط بالحياة العربـية قبل الإسلام من جهة ثانية، وإفادته من فكرة وجود نوع من المعاجم التاريخية المتعلّقة بحقبة تاريخية أو حضارية معيّنة، ويطمح د.عبيد الله أن يسير مشروعه المعجمي في الاتجاه نفسه، ويكون تمام أجزائه إيذانًا بوضع معجم التراث الحضاري والثقافي عند العرب قبل الإسلام، بما يوفّر معجمًا مرجعيًا ذا طبـيعة موسوعيّة، يجمع بـين فروع المناهج والمعارف المتنوعة، ويقاوم ضيق التخصص؛ ليملأ مساحة لم تزل فارغة تتصل بالدراسات العربية الأنثروبولوجية والأدبية والثقافية.
ويؤكد المؤلّف أن معجمه قد راعى التوجّه التاريخي بمحاولة الاقتراب ما أمكن من المعنى التاريخي للألفاظ، انطلاقا من أن المعنى يتغيّر ويتبدّل من مرحلة إلى أخرى، فالمعنى ظاهرة تاريخية متحوّلة، وثمّة نوع من المعاجم يُسمّى اليوم بالمعاجم التاريخية التي تُعنى بـتطوّر الألفاظ مبـنى ومعنى، إلى جانب الاهتمام بـتأصيل الكلمة عبر الإفادة من اللغات السامية وغير السامية التي وفدت منها الألفاظ أو استُعملت فيها.
وذكر د.عبيد الله أنه طبق معظم ما يهتم به المعجميون من عناصر معجمية؛ ومن ذلك الاهتمام بضبط الكلمة المفتاحية، ووصف ضبطها بالحروف إن لزم الأمر، وإن كان لها أكثر من صورة نبّه على ذلك. وأما المعلومات اللغوية فأثبـت منها ما يحتاج إليه القارئ للإلمام بالكلمة وتفهّم معناها واستعمالها.
أما عن اهتمامه بالتراث إلى جانب اهتماماته النقدية المعاصرة فلا يرى د.عبيد الله تعارضا بين المعاصرة والتراث، ذلك أن المعول عليه هو نظرتنا النقدية إلى التراث، وقدرتنا على فهمه وتفسيره وتحليله، وهو يضع نفسه مع تيار الحداثة التي تنهض على عناصر تراثية قوية، وقد ثبت أن الحداثة المنقطعة ضرب من المستحيل.
ويذكّر المؤلف جمهرة القراء والمثقفين في أيامنا بأن قطاعا واسعا من مثقفي الحداثة العربية هم خبراء في التراث، من طه حسين إلى محمد عابد الجابري، وإحسان عباس، وناصر الدين الأسد، وعبد الله العروي.. وغيرهم. ويرى أنه تأثر بأساتذته الموسوعيين الذين لم يضيقوا على أنفسهم وعلى الناس، وكانوا يرون الثقافة العربية قديمها وحديثها حقلا اختصاصيا لهم. أما من يتخصصون في مسألة بعينها؛ كأن تتخصص في (اسم الفاعل) أو (اسم المفعول) أو في قصيدة (قفا نبك) أو قصة (النمور في اليوم العاشر) على سبيل المثال، فلهم خياراتهم ولكنه لا يحبذ مثل هذه التخصصات ويراها ضيقة في أفقها وفي إنتاجها العلمي والثقافي.
مؤلف المعجم د.محمد عبيد الله، ناقد وباحث أردني معروف، أصدر نحو عشرين كتابا في النقد الأدبي والدراسات العربية والمعجمية، وفاز بعدد من الجوائز العربية، منها جائزة إدوارد سعيد للفكر التنويري ونقد الاستعمار، وجائزة كتارا للرواية العربية (حقل الدراسات النقدية). من مؤلفاته: أساطير الأولين: الجنس الأدبي الضائع في السرد العربي القديم، الصناعة المعجمية والمعجم التاريخي عند العرب، الرواية العربية واللغة، رواية السيرة الغيرية: قضايا التناص، وجدل التخييلي والتاريخي، الوعي بالشفاهية والكتابية عند العرب، بنية الرواية القصيرة في فلسطين والأردن.. وغيرها.