عروبة الإخباري – في صيف 2008 اجتمعنا في عمان. كان حلم تقديم رواية «زمن الخيول البيضاء» في مسلسل تلفزيوني، قد أصبح حقيقة؛ حاتم علي الذي قرأ الرواية، جاء إلى عمان متحمّساً، حتى أنه رفض الحديث في أي موضوع ماليّ: «ما دام المسلسل عن فلسطين، سنبدأ العمل، وبعدها نتحدث في التفاصيل المالية». هذا ما قاله لأخي طارق زعيتر، منتج العمل، الذي كان سعيداً في تلك الأيام بالنجاح الكبير للجزء الأول من مسلسل «باب الحارة» الذي أنتجه.
كان أكثر ما يشغلني هو المكان الذي سيجري فيه تصوير الأحداث؛ كنت أميل إلى وجود مكان جميل يمثل قرية «الهادية» وكان حاتم علي يجول في الأماكن بخياله، ويقول لي: أظننا سنجده في ريف طرطوس، هناك سنجد مكاناً معبّراً عن «الهادية».
كان المخطط أن يكون العرض الأول للمسلسل في رمضان 2009 مسلسل ينتمي لفئة المسلسلات ذات الإنتاج الضخم، لكنّ مسألة وجود الخيول التي ستلعب أدواراً حقيقية في المسلسل، كشخصيات، وأهمّها «الحمامة» و»الأدهم» كانت تحدّياً.
لم يطل الوقت قبل الوصول إلى قرار الاستعانة بمدرب خيول إسباني يأتي إلى عمّان، ليبدأ باختيار الخيول المناسبة وتدريبها، في الوقت الذي يكون العمل على السيناريو مستمرّاً، في انتظار بدء التصوير في كانون الأول/ ديسمبر 2008.
كانت شركة زعيتر قد حددت ميزانية كبيرة لكي يتحقق حلم إنتاج الرواية، ولذا راح أخي محمد زعيتر، المدير التنفيذي للشركة، يتنقّل بين العواصم على أمل عقد اتفاقيات مع الفضائيات التي ستقدم العرض الأول.
أعددتُ ملخّصاً للأحداث، وقائمة بالشخصيات، وحجم ظهورها، والأماكن لتي سيتم فيها التصوير، وكتبَ حاتم علي رؤيته للعمل في صفحة واحدة وجدتها لديّ، ليتم عرضها مع الملخص على المسؤولين في الفضائيات العربية. كان الهدف أيضاً من هذا أن تقوم إحدى الفضائيات الكبيرة بالمشاركة في الإنتاج، وبذلك يكون لها حق احتكار العرض الأول.
كتب حاتم علي، وسأُدرج هنا كلمته كاملة، لا لشيء، إلا لأنها تعبّر عن جوهر هذا المخرج الكبير الذي أدمى غيابه قلوب الناس: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، مقولة روّج لها الغاصب طويلاً، كي يربح التاريخ بعدما ربح الأرض. «زمن الخيول البيضاء» مسلسل ليس عن القضية الفلسطينية، بل عن هؤلاء الذين عاشوا فوق هذه الأرض، يعتمد على الوثيقة المكتوبة والشفهية كي يعيد خلق حياة هؤلاء بتفاصيل ثرية، بدءاً من نهايات العهد العثماني، مروراً بالاستعمار البريطاني، وانتهاءً بالاحتلال الصهيوني عام 1948. من خلال رصد مصائر مجموعة من القرويين الذين يعيشون في قرية «الهادية» القريبة من القدس… مسلسل زمن الخيول البيضاء، يُفصح في جوانبه العديدة عن تفرّد في تقديم الحياة الفلسطينية برؤية جديدة غير مفتعلة وبصياغة بصرية متطوّرة تستخدم آخر التقنيات في عالم صناعة الدراما التلفزيونية، بهدف صناعة عمل جذاب وممتع يتكئ على قضية تشكل وجدان كل مشاهد عربي وينطلق من منظومة قيم عربية أصيلة، تنفرد باهتمامها الكبير بالإنسان والطبيعة.. وانطلاقاً من إيماننا بأن القضايا الكبيرة وحدها غير كافية لصناعة عمل فني كبير، فإن اهتمامنا سوف ينصبّ على أن تواكب الفكرة معالجة درامية تصوغ مصائر الشخصيات بأسلوب شيّق وعميق في آن معاً، عبر معالجات فنية مدعومة بإنتاج قادر على إعادة صياغة المشهد بكل ما يتطلّبه من تفاصيل.
نطمح من خلال «زمن الخيول البيضاء» إلى إعادة إحياء القرية الفلسطينية ببيوتها وأزقتها، سهولها وكرومها، أناسها وحيواناتها، حيث سيكون للخيول حضور متميز يتجاوز الواقعيّ إلى الدلاليّ، وكذلك لمدينة القدس التي سيكون لها حضور روحي ورمزي وأيضاً واقعي، بشوارعها، وساحاتها ومساجدها. وستتصارع فوق هذه المساحة شخوص مختلفة، تلتقي وتفترق، تحبّ وتكره، عبر مجموعة من الحكايات المتشابكة والممتعة، والتي ستنتمي إلى مواقع مختلفة، من العثماني إلى الإنكليزي إلى الصهيوني إلى العربي الفلسطيني، والمصري، والشامي. وسيقف خلف الكاميرا تقنيون وفنانون، ينتمون أيضاً إلى بلدان مختلفة، يجمع ما بينهم خبرات سابقة مشهود لها، كل ذلك من أجل تقديم مسلسل درامي جذاب وممتع، نأمل أن يُضاف إلى سجل الأعمال الدرامية المتميزة».
حين طُلِبَ مني أن أكتب السيناريو، ترددتُ كثيراً، رغم علاقتي القوية بالسينما التي تجسّدت في كتابين عنها، فقد كنت أريد أن أحرّر روايتي منّي، لكن الأمر أصبح مُلحّاً، فاشترطتُ أن أكتب ثلاث حلقات ترسل إلى حاتم علي، دون أن يقال له إنني من كتبها. قرأ حاتم الحلقات وأخبر المنتج: «سأبدأ من حيث بدأ هذا النص، وأُنهي حيث انتهى تماماً، لن أغيِّر شيئاً فيه». وهكذا امتلكتُ الجرأة لكتابة الحلقات السبع والعشرين التالية. وأعترف الآن أنني، رغم العمل المرهق حقاً في كتابتها، سعدت بالتجربة ذات البناء السينمائي (في كل حلقة 40 مشهداً على الأقل) كما أتيح لي أن أعيد كتابة زمن الخيول بالكاميرا، وهذه تجربة علّمتني الكثير، وستنعكس على كتابتي لرواية «قناديل ملك الجليل» التي كنت أحضِّر لها، كما أنها أتاحت لي أن أُضيف مشاهد كثيرة لم تكن في الرواية، ومضاعفة مساحة وجود بعض الشخصيات المؤثرة، التي كانت أدوارها تنتهي في منتصف العمل، فباتت تحضر حتى نهايته.
حديثنا عن الممثلين الذين سيؤدون الأدوار لم يكن يتوقف، وكلما خطر ببال أحدنا اسم اتصل بالآخرين، لكن حلمنا بدأ يصطدم بواقع مختلف، لم نتخيّله، ويمكنني القول الآن إنه كان البذرة السوداء العميقة لنبتة التطبيع الأشد سواداً التي نراها اليوم. فقد بدأ التملّص من إعطاء وعد بالمشاركة في الإنتاج، أو حتى تقديم العرض الأول، حين استعدَّ المنتج لدفع كامل تكاليف العمل. وبعد التملّص اقترحتْ إحدى الفضائيات الشهيرة السماح لها بتحويل القسم الأول من الرواية إلى مسلسل بدويّ! واشترطتْ أخرى، لا تقل عنها شهرة، تغيير المكان، أي أن لا يكون فلسطين، وسيشاركون في الإنتاج فوراً!
في تلك الأيام، أدركنا للمرة الأولى أن فلسطين غير مُرَّحبٍ بها في الفضائيات العربية.
وبعــــد:
ما دفعني لكتابة هذا المقال، هو توجيه التحية لروح فنان كبير التزم بفلسطين وقدم قضيتها في أبهى صورها، وتوجيه التحية لعشرات الآلاف من القارئات والقراء الذين تأثروا بعمق حين نشرتُ على صفحتي صورة لخبر صحافيّ قديم عن ذلك المؤتمر الصحافي الذي حضره حاتم علي وتمّ فيه الإعلان عن مسلسل زمن الخيول البيضاء، هؤلاء الذي بكوا الراحل الحاضر واحتضنوا بكل ما فيهم من حبّ فكرة هذا المسلسل.
هل هناك فرصة لتحقيق حلم حاتم هذا.. حلمنا؟ لن نفقد الأمل.