عروبة الإخباري_ كتب سلطان الحطاب
أكتب عن الكِندي…عن المستشفى الذي يحمل اسم العَلّامة الطبيب “يعقوب بن اسحاق الكِندي” المولود في الكوفة والمتوفى عام (873) ميلادي عن عمر (70) سنة، وعن صاحب الفكرة والمنفذ والمستثمر الدكتور “محمد خريس” حين كتبت ثلاث حلقات سابقة من مقالي عن المستشفى، وعن الفكرة وعن المساحة التي اشغلها المستشفى في الجسم الطبي الأردني الذي يحتاج إلى كل سرير إن لم يكن الآن، ففي القريب المنظور فإن ردود فعل عديدة جاءتني بعضها تثني ويرى في ما كتبت دعوة للتفاؤل وتشجيعا على الريادة والتميز و إعطاء الناس حقوقهم من الثناء حين يحسنون، والبعض الآخر ناقد ومستنكر وهؤلاء نعرف منهم الكثير في العديد من المواقع والنشاطات، فقد أصيبوا بضيق العين والحسد ورأوا انهم أول الدنيا وأخرهم، وأن الأمهات لم يلدن مثلهم ولن.. وهذه الفئة لم استمع اليها لأنها تهدم ولا تبني وتقول ولا تفعل وتتباهى بما لا تستحق المباهاة، ويهمها من أمرها المظهر لا المضمون، والفئة الثالثة ضمت لا هنا ولا هناك، وربما في أحسن الظن انها انتظرت مزيدا من الانجاز او العمل لتصنف الاشياء بعد ان تراها وتحسها و تختبرها، قد تكون الظروف التي قام فيها مستشفى الكِندي على الشكل المميز الذي نراه ظروفا صعبة حيث إنتشار جائحة الكورونا التي عطلت الانطلاقة المناسبة والتحليق العالي.. ولكن الكِندي انبثق وهو يواصل بتميزه ، وقد اراد ان لا يقلد وإنما ينفرد فبعض المستشفيات على ضخامتها وقدمها نسبيا لا تعدو ان تكون دكاكين احيانا حين يتعلق الامر بالكُلف والأسعار..
كنت في زيارة للمستشفى الذي يتميز بمواصفات عديدة لا مجال لذكرها لكن الزائر مريضاً ام غير مريض يستطيع ان يلمسها منذ اللحظة الأولى لدخوله سواء في المساحات الفارهة أم الغرف أم الأسِرة أم التأثيث المتخصص، وكل ذلك جرى فهمه لدى جهات خارجية دولية جاءت وفودها ومجموعاتها للتعاقد مع المستشفى للتعاون الطبي عبر الستلايت ولتبادل الزيارات وربما المرضى مستقبلا، حيث أسست توجهات لذلك كما ينطوي المستشفى على تأهيل مستمر وتعلم مستمر وعلى شبكة مميزة من العلاقات العامة لشؤون المرضى وللجمهور وللترويج.
فقد خبر الدكتور خريس صاحب الفكرة المغامرة في تقديم هذا المستشفى كهدية للوطن بلدان عدة وتعامل مع مستويات جد مميزة من المرضى الذين تنقل لهم عبر عواصم عديدة حتى كسب سمعة دولية مميزة، ولهذا حط إدارة المستشفى بين يدي طبيب خبير، جرب الإدارة في أعلى مواقعها حين كان وزيرا للصحة فكان الدكتور “علي حياصات” بحق الطبيب الانسان والاداري الناجح والمتفائل بالمستقبل، حيث يملي ذلك حبه للوطن ولمواطنيه…
على الدولة الآن وقد توفرت فيها بنية تحتية مناسبة وقد تكون كافية حين اضيف لما كان موجودا وهي 1800 سرير ما يصل الى 2000 سرير اخرى قدمت من خلال المستشفيات المتنقلة “القاعات” والتي انتشرت في عمان واربد ومعان والزرقاء لتبلغ خمسة وقد يتبعها تأهيل المستشفيات الحكومية القديمة في السلط والزرقاء ليعاد وضعها في الخدمة مجددا..
استمعت إلى كلام الدكتور خريس ووقته من ذهب فقد استطعت ان اغتنم فرصة راحته القليلة وقدومه من عيادته في شارع الخالدي الى المستشفى لأدرك ان الجسم الطبي الاردني ذو بنية متينة وانه لابد من دعمه و دفعه للأمام والحفاظ على ديمومته وتمكينه وحمايته ورفع كل عوامل البيروقراطية والتعطيل، لأن الاردن كان ومازال يتميز في اقتصاده بالخدمات التي يبرز فيها الخدمات الطبية والخدمات التعليمية.. وإذا كان من السهل ان تقنع مستثمرا بفتح مصنع أو اقامة شركة استيراد وتصدير او حتى فندقا او سوقا فإنه ليس من السهل اقناعه بإقامة مستشفى الا اذا كانت دوافعه انسانية أو وطنية، وهذا ما حدث تحديدا مع الذين أقاموا في السنتين الاخيرتين مستشفيات جديدة..
يرى الدكتور خريس وهو انسان متفائل ان العمل يجب ان ينصرف الى التراكم والصبر والمواظبة، فالمشاريع الجيده تحتاج الى وقت لتثمر وهي كشجرة الزيتون، كما أن الهدف لابد ان يكون بناء الثروة ذات الطبيعة الوطنية وليس جمع المال.. فالمستشفيات قد لا تكون الوسيلة الفضلى لذلك لكن الطموح والتعبير عن الذات و الانتماء للمجتمع كل تلك العوامل تجعل التضحية ممكنة والمغامرة مقبولة..
على شهرته ونجاحه الباهر احسست بتواضعه شأن الاشجار المثمرة بكثافة.. فإن اغصانها دانية في حين ان العوسج ينتصب في الهواء لتؤذي اشواكه ومن يقترب او يلمس فلا يترك راحة ولا يبني ظلا..
الدكتور خريس كان وفيا للكِندي الطبيب العلامة صاحب البصمة في تاريخ العلم والطب الانساني، وهو يريد بذلك التواصل مع ثقافته العربية والإسلامية ويحرص على ذلك فما لمسته من حوارنا انه مثقف اديب وصاحب دراية بالتراث واللغة وذواقه مميز للشِعر مطلع على التاريخ ومولع بقراءته، وإذا كان احساسه قد جعله يرى بضرورة احضار الكِندي كاسم وتراث ليكون ماثلا بيننا على شكل مستشفى يحمل اسمه المنتصب على تمثال في مدخل المستشفى، فان الدكتور خريس لن يعدم من تلاميذه او ممن سيأتون بعده في ان يصلوه بالاجيال والمستقبل، فالطبيب اكثر الخلق قدرة على ترك اثر حميد في الحياة لأنه يتعامل مع الحياة ويمكن الاخرين منها ومن نوعيتها وبالتالي فانه مصدر لها ومن كان مصدرا لحياة الآخرين فإنه يخلد في اجيالهم..
وأخيرا لا املك إلا ان اقول بارك الله فيك يا دكتور خريس فقد اهديتنا الكِندي العالم الفيلسوف وعالم الرياضيات والطبيب النابغة حين أعدت بعث اسمه من مرقده في الكوفة حيث ولد، وقد ترك في حياته اكثر من 240 كتابا على 17 مجالا من مجالات المعرفة و تنوعاتها، وها نحن نعود لنقرأ قول الكِندي رحمه الله: ” لتنزع السلاح من المتعصب علمه، الحقيقة بالمبدأ والرفق بالمماثلة، الحقيقة لا تُفسد، ولا ينبغي التقليل من شأن الباحث عنها.
لا ينبغي علينا الخجل من الاعتراف بالحقيقة مهما كان مصدرها، حتى وإن كانت من أقوام سبقونا أو من أجانب، فلا يوجد شئ أكثر قيمة للشخص الذي يبحث عن الحقيقة من الحقيقة نفسها”.