في شهر ربيع الأنوار، وفي عصرنا هذا الذي طغت فيه النزعات المادية والصراعات الدموية، تزداد حاجتنا الى استحضار القدوة الإنسانية الملهمة التي تعيد إلينا الأمل والرجاء وتساعدنا على إعادة التوازن والانسجام وتحقيق الوئام في مجتمعاتنا الإنسانية.
أحيانا يكون الشعراء أكثر قدرة من المفكرين والفلاسفة على التعبير عن جمال الفكرة وجلالها، وهنا أذكر قول أحمد شوقي في مدح النبي الأعظم :
بِكَ بَشَّرَ اللَهُ السَماءَ فَزُيِّنَت وَتَضَوَّعَت مِسكًا بِكَ الغَبراءُ
وَبَدا مُحَيّاكَ الَّذي قَسَماتُهُ حَقٌّ وَغُرَّتُهُ هُدىً وَحَياءُ
وَعَلَيهِ مِن نورِ النُبُوَّةِ رَونَقٌ وَمِنَ الخَليلِ وَهَديِهِ سيماءُ
ذكرى ميلاد المصطفى جديرة بأن تكون مناسبة تحتفل بها الإنسانية جميعاً، فمن عرف النبي حق المعرفة، أدرك أنه”رحمة للعالمين”، وهذا ما شهد به المنصفون من غير المسلمين. يقول تولستوي: “إن النبي محمد من عِظام المصلحين، الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة، ويكفيه شرفاً أنه هدى أمة برمتها إلى الحق”.
ينظر القرآن إلى الأنبياء باعتبارهم منظومة واحدة متصلة، يُصَدِّقُ بعضها بعضا، ولا سيما فيما يتصل بالمبادئ الكليّة والقيم الأخلاقية. (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 84]. فالبحث عن الجوامع والمشتركات، يمثل سمة أساسية للشخصية النبوية. ومن أهم الجوامع التي نادى بها الإسلام، هي مكارم الأخلاق، “إنَّما بُعثت لأُتَمِّم مكارم الأخلاق”. فنحن جميعاً متفقون على حاجتنا إلى التضامن الأخلاقي كما أشار قداسة البابا في رسالته الأخيرة “كلنا أخوة”.
الأنبياء هم معلمون مُلْهِمون، يخاطبون العقل والوجدان ويسعون لتزكية النفوس الناس والارتقاء بالأخلاق: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 151). ويصف النبيُّ محمدٌ (صلى الله عليه وسلم) نفسه بأنه مُعلّم: (إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً مُيسراً) (رواه مسلم).
لم تلغ النبوة بشرية الأنبياء وإنما ارتقت بها وزادتها جمالاً وكمالاً، ولعل الفهم العميق لقوله تعالى:” قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ.”(الكهف:110) يؤكد أن الطبيعة البشرية ستبقى حاضرة بعد أن يلامس الوحي الإلهي قلب الرسول، وهذا المعنى ينسجم والمعاني العميقة لتكريم الخالق للانسان.
لم يكن محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) مفكراً مثالياً يحلم بمدينة فاضلة، وإنما كان قائداً ومصلحاً اجتماعياً أنقذ أمته من صراعاتها الداخلية، وأرشدها إلى طريق الهداية والأخوة والرشاد (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانً)، (آل عمران: 103). ولم تكن دعوته قومية أو قَبليّة، وإنما كانت دعوة عالمية أنارت للإنسانية معالم الطريق، وقد جسّد الرسول ما كان يدعو إليه ويؤمن به من مقولات في واقع اجتماعي، فهو يمثل حالة نادرة في تاريخنا البشري، حيث الجمع بين عمق الفكرة، وبراعة القدرة على إدارة شؤون الدولة.
في ذكرى مولده، لا بد من رسالة لأمته بأن تنبذ الفرقة والنزاع، وهذه الدعوة موجهة كذلك لجميع شعوب العالم ، خاصة ونحن نحتفل بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الأمم المتحدة، آن الأوان أن نذكر عالمية الإنسان، وأن العالم يعاني من معضلة ضعف القيم، وهنا تبرز أهمية مراجعة الذات، واستثمار التجارب والمبادرات الإنسانية مثل حلف الفضول الذي سبق البعثة، والذي تعاهدت فيه قبائل قريش “ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه”، والذي قال عنه الرسول (صلى الله عليه وسلم): “ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت”.
وهنا ينبغي أن نؤكد أن التصرفات الاستفزازية المتكررة، بالإساءة إلى الأديان والأنبياء عليهم السلام، هي محفِّز على صناعة الكراهية، وإشعال وقود التطرف والفتن بين الشعوب. ومن هنا، فإن العقلاء مكلفون بأن ينهضوا لتجريم الإساءة للأنبياء بمواثيق دولية، حماية للوئام المجتمعي، ومنعاً لأسباب الكراهية والفتن.
وفي مقابل الإساءة لشخص النبي التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى، يجد بعض المسلمين أنفسهم منساقين لرد الإساءة بالإساءة، وهنا لا بد أن ندرك بأن خير وسيلة للدفاع عن النبي العظيم، إنما يكون بتقديم القدوة الحسنة، وبيان الشمائل النبوية للإنسانية. كما ينبغي على المسلمين في العالم أن يوسعوا علاقاتهم ويحسنوا لجيرانهم وأن يدعموا الأصوات المنصفة والمدافعين عن السلم الأهلي والسكينة بين الناس.
ومع إيماننا بأن محاولات الإساءة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لن تمسّ قدره الشريف، فالعظماء والعقلاء لا يقابلون الإساءة بالإساءة وإنما بالعلم والبيان لمن لا يعرف، وبالحكمة والإهمال لمن يسعى إلى الإساءة لأجل الإساءة، وهنا نذكر قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، (الفرقان:63).
إن المهمة الأولى للعقل المسلم اليوم، تتمثل في إعادة اكتشاف العمق الإنساني لرسالة الإسلام، وهذا يتطلب تجاوز كثير من المقولات الشائعة في فضائنا الثقافي، من نحو مقولة تصادم الحضارات وصراع المعتقدات، والانتقال إلى حوار الثقافات، والبحث عن القيم الإنسانية المشتركة، والتكامل المعرفي والعرفاني.
لا بد لنا أن نتساءل :كيف يمكن لأتباع الأديان أن يسهموا في مواجهة التحديات التي تعترض حياة البشرية، وماذا يمكن لهم أن يفعلوا أمام انتشار الأوبئة والأمراض والكوارث المختلفة، سواء الكوارث الأساسية الناتجة عن قوى الطبيعة، أو الكوارث التي يمكن التنبؤ بها مثل المجاعات والأوبئة، أو الكوارث العارضة، كـالـكوارث الصناعية والنووية، أو الكوارث المُتعمّدة كالحروب والنزاعات وما تخلفه من ملايين اللاجئين والمشردين؟
وإنَّ استلهام العِبرة من الهجرة النبوية في معاناة وآلام الهجرة واللجوء، يدعونا اليوم ونحن نشهد ارتفاعاً كبيراً في أعداد اللاجئين والمهجرين، إلى الأخذ بالأسباب والتخطيط بمنهجية مبنيّة على رؤية واضحة للحالي والمستقبل من أجل درء تلك المعاناة والتخفيف منها ،ولقد سعيت – وما زلت – خلال عملي مع اللجنة التوجيهية للمجلس العالمي للاجئين والهجرة للعمل على توعية الناس ومناقشة الإجراءات المطلوبة لبناء نظام إنساني عالمي للتعامل مع الهجرة والنزوح القسري التي يعاني منها البشر من جميع أنحاء المعمورة، وهنا أقول : لا بد من تفعيل القانون الدولي الإنساني ليصبح قانوناً نافذاً للسلم الداخلي والخارجي له آثاره الملموسة في عالمنا اليوم وغداً.
لم يأتِ الأنبياء ليزيدوا الناس شقاءً وصراعاً، ووفق هذا النهج جاء المصطفى عليه الصلاة والسلام رحيماً متواضعاً، عطوفاً يرأف بخلق الله، ويُحب لهم ما يحبّه لنفسه من الخير “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخية ما يحب لنفسه” (رواه البخاري ومسلم) . وجاء في الإنجيل الشريف: (فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ، افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ) (متى 7: 12).
ما نريده اليوم، هو تَدَيُّنٌ يُجَسِّدُ محبة الله، وهي عبادة تخرج من ضيق الحرف والبحث عن الخلاف، إلى سعة البِرِّ والإيمان، والعمل الصالح، وهنا نقول إنَّ الزكاة التي جعلها الإسلام ركناً من أعظم أركانه، تمثل شكلاً عملياً للبرّ وتحقيقاً للعدالة الاجتماعية التي تحقق التضامن الإجتماعي، وتعمِّق الارتباط بين الجوانب الروحية والأخلاقية من جهة، والجوانب الاجتماعية والاقتصادية من جهة ثانية.
وفي الختام نقول: كان ميلاد النبي أحمد للحياة حياة، فهل نُجدِّد حياتنا بهديه، أم نفني أنفسنا بالبعد عن نهجه ، دعونا نوجد للإسلام ذلك الفعل الحضاري المبدع والمرصد الحضري الذي يليق بمكانته في عالم القيم .