عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
يترك موقعه ليعأوده، فلديه أوراق اعتماد هي عمله وانجازه، والرجل الذي أعرفه جيداً لا يختلف موقفه من القضايا العامة، سواء كان في موقع المسؤولية والوظيفة أو خارجها، فلديه لغة واحدة لا يستعملها لغير المصلحة العامة، ولذا فإنه لا يقلد الأخرين من المسؤولين الذين ما ان يغادروا الموقع حتى يستبدلوا اللغة ويبدأون النقد، و يسلقون الاخرين بألسنة غلاظ شداد..
“سلامة حماد” بدأ الوظيفة من الصفر موظفا في الداخلية، وقد تعرفت عليه كصحفي حين كان موظفاً في دائرة الجنسية بوزارة الداخلية يوم أن كان الراحل حسن الكايد وزيراً لها..
لم يذهب “سلامة حماد” بعيداً عن وظيفته ومتابعة شؤونها، وقد رأيته يتسع صدره للنقد حين كانت تُشن عليه حملات مخططة.. وقد كانت بعض الأطراف تثير عليه من تستطيع ان تُحركهم في الشارع ليهتفوا ضده، وهو يدرك وهو وزير للداخلية انه لن يحظى بالرضا من كل الاطراف، فلا بد أن يكون هناك متضررين من تطبيقه القانون أو ممن يضيق عليهم هوامش المرأوحة..
استطاع في الأيام الاخيرة من توليه حقيبة الداخلية في حكومة الرزاز وقبل ان يترك، ان يدير حواراً ناجحاً لاقناع الاسلاميين (الاخوان) ان لا يعملوا على مقاطعة الانتخابات النيابية، وان لا يشاغبوا على مسيرتها، وقد اثمرت حواراته معهم في اقناعهم، وقد كان هذا أحد اسئلتي له في مقابلة معه قبل شهر من خروجه من الوزارة، ورأى ان مطالبهم معقولة بعد أخذ ورد، وأنهم يمكن ان يُحصلوا عشر مقاعد، فقلت: ولكنهم عام 1989 حصلوا أكثر فابتسم وقال: ذلك زمن مختلف، وهم اليوم بحاجة الى ان يحافظوا على وجودهم إذا ما رأينا كيف يتعامل الاقليم والعالم معهم في اعقاب تطورات هامة..
رجل المهام الصعبة كان يرى أن في المصلحة الوطنية استمرار الحوار مع القوى السياسية جميعها بلا استثناء، ولست أعلم إن كانت قناعات “أبو ماهر” قد جاءت من لدنه أم أنه مرر رسائل القصر حتى من وراء الحكومة التي لم يكن منسجما معها لقناعات لديه، ولملاحظات لم يكشف عنها، ولكني لمستها بلغة الجسم حين كان يتحدث عن التناغم وعدمه في حكومة الرزاز، وقد أبدى رأيه انه ضد المماطلة وضد عدم ابداء الرأي أو عدم الحسم أو المجاملة الزائدة أو التأجيل أو الارتخاء في اتخاذ القرار أو الليونة التي تعكس ضعفا.. لم يقل الرجل ذلك، ولكنني ادركت انه يعني ذلك تماما،ولذا ظل “أبو ماهر” على مسافة من رؤساء الحكومات الذين عمل معهم اخيراً (عبد الله النسور و هاني الملقي وعمر الرزاز) فهم لم يستطيعوا ان يحتوه ويجيّروه لمواقفهم بحكم خبرته ودرايته ورغبته ان يكون حاسماً حين يتخذ القرار في مجلس الوزراء، فلا داعي بعد ذلك لتأجيله أو افراغه من مضمونه بفعل تأثير هذا الطرف أو ذلك..
ظل عدم انسجامه مع حكومة الرزاز يقلقه، وكان يدرك انه ربما لا يستمر فيها كما كان الحال مع حكومة عبد الله النسور والتي تصادم مع رئيسها، أو حكومة الملقي التي ظل يرى أن الاستعراضية فيها اكثر من العمل وكان كثيرا ما يعترض على طريقة رئيس الوزراء في الإدارة عن طريق الواتس اب..
عرفت الرجل عن قرب حين اشتركت معه في “لجنة حماية تراث أم الرصاص” وهي البلدة الاثرية الهامة في التاريخ، وهي مسقط رأسه وتقع إلى الجنوب من عمان على بعد اربعين كيلومترا الى الغرب ،وقد ألفت كتابا عن “أم الرصاص” رعى طباعته رجل الأعمال المحترم نديم المعشر، وقد تشرفت بالعمل في هذه اللجنة “الدفاع عن تراث ام الرصاص” والتي كان من أنشط الاعضاء فيها “سامي قموة” قبل ان تتعطل اعمالها ولم تعد تعقد جلساتها!!
لا أريد الكتابة عن انجازات “سلامة حماد” فذلك يحتاج الى مجلد ابتداء من دوره في تنظيم تدفق اللاجئين بعد احتلال الامريكيين للعراق، وقد كان مسؤولاً ومروراً بمهام عديدة ومميزة لم يكشف عن أكثرها.. فالرجل لا يتحدث عن نفسه وإن رغبت ان يتحدث لاحقا بعد استراحة المحارب التي دخل اليها ، فقد تميز في شخصه بالبساطة والحسم والقدرة على رسم هيبة لوزارة الداخلية لا تقوم من القسوة وإنما من القرار الواضح.. كما كان دوره واضحا في إعطاء كل ذي حق حقه، حين كان في وزارة الداخلية من يعبثون في الارقام الوطنية أو يوظفونها لغير المصلحة الوطنية ممن احترفوا المزايدة بالوطنية التي كان “أبو ماهر” يمارسها ولا يدّعيها .. فلم يكن الرجل جهوياً أبداً..
ومع أن “أبو ماهر” قد أمضى عمره الذي عبر به الى السبعين ، إلا أنه ظل يمارس عمله بكل نشاط ومثابرة، وقد يكون له في الأيام القادمة مهام يعود اليها، اذا كانت استراحته التي يدخلها الآن قصيرة، فقد ظلت الدولة بحاجة الى خبرته المتراكمة..
لن أكون شعبوياً ولا مقبولاً لدى الكثيرين ( وانا صحفي أؤمن بحرية التعبير وأضحي من أجلها)، حين أمتدح وزيراً للداخلية أو اثني على عمله، لكن معرفتي به ولزوم الجيرة في السكن تفرض عليّ أن أقول ما يخشى البعض من قوله، خاصة أولئك الذين يصفقون للقادم ويذمون الذاهب..
رجل الدولة والوظيفة العامة يضحي أحيانا بأشياء كثيرة، وقد يُحمله الاخرون ما لا يحتمل أو يقولوا فيه ما هو بعيد عن الواقع والحقيقة، لكنني وأنا أعرف جوانب من شخصيته وجب عليّ ان أقول (وأنا لا أزكّي على الله احداً)، انه كان جندياً مخلصا لوطنه ومليكه، وأنه أعطى ما عنده واجتهد ما استطاع، ولذا استحق مني أن اقول له: وداعاً من الوظيفة يا “أبا ماهر” وأهلاً بك في استراحة تقترب منها من أصدقائك وتظل على ولائك!!