سؤال يبرق في ذهني بين حين وآخر، وأظن أن وتيرته ستزداد إلحاحاً مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية يوم 3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. أدرك أنه سؤال يعكس هاجساً شخصياً أكثر مما قد يعكس همّاً عاماً، غير أن من المسلّم به أن هذه الانتخابات ليست شأناً أميركياً خالصاً، ومن ثم من الطبيعي أن يتابعها العالم كله باهتمام، وأن يتحسّب لما قد تفضي إليه من نتائج، بصرف النظر عن اسم الفائر فيها، والذي لا بد وأن تنقسم حوله الآراء في جميع الأحوال!
يبدو واضحاً أن بعض الأوساط الحاكمة، خصوصاً في عالمنا العربي، تتمنّى فوز ترامب لأسباب عديدة، ربما أهمها أن هذه الأوساط على يقين من عدم اكتراث ترامب لانتهاكات حقوق الإنسان في أي مكان، ومن ثم تتوقع أن يؤدّي انتخابه إلى استمرار إطلاق يدها في ممارسة كل أنواع البطش ضد شعوبها، طالما التزمت بدفع الإتاوة المطلوبة منها مقابل ضمانات الحماية المقدّمة لها. كما يبدو واضحاً وجود أوساط سياسية وفكرية مناهضة للسياسات الأميركية في مناطق مختلفة في العالم، ومنها عالمنا العربي، تتمنّى فوز ترامب في هذه الانتخابات، اعتقاداً منها بأن وجود رجلٍ من عينته في البيت الأبيض يساعد على تفاقم المشكلات في الداخل والخارج، ومن ثم فقد يعجل بانهيار الولايات المتحدة، أو، على الأقل، يُضعف من مكانتها وقدرتها على التأثير في مصير الآخرين. وعلى أي حال، سوف يتعين على العالم أن يتعايش مع أي رئيس يفوز في الانتخابات، غير أنني أعتقد أن العالم سيكون أفضل نسبياً إذا خلا البيت الأبيض من هذه الشخصية القميئة خلال السنوات الأربع المقبلة!
كنت من بين من شد انتباههم صعود ترامب السريع والمفاجئ في عالم السياسة الأميركية، خاصة بعد قرار الحزب الجمهوري ترشيحه رسمياً في انتخابات 2016، على الرغم من حداثة عهده بأمور السياسة، ما دفعني إلى متابعة حملته الانتخابية آنذاك بقدر كبير من الفضول. لم أكد أشرع في هذه المتابعة، حتى بدا لي ترامب وقتها أقرب ما يكون إلى مهرّج في سيرك، أو لاعب في حلبة مصارعة منه إلى رجل دولة. وبالتالي، قد يكون مؤهلاً لانتزاع بعض ضحكات هنا أو صيحات إعجاب هناك بأكثر مما كان مؤهلاً لقيادة الدولة الأقوى. وما إن بدأت أتنبه، عبر المسار الذي سلكته الحملة الانتخابية، إلى المدى الذي كان قد وصل إليه نفوذ التيارات الإنجيلية المحافظة، واتساع نطاق الأوساط الاجتماعية المتضرّرة من نتائج العولمة الاقتصادية، حتى بدأت أدرك أن ترامب ليس نبتاً شيطانياً، وإنما هو إفراز طبيعي لهذه الموجة اليمينية المتطرّفة الزاحفة. وبالتالي، لم أستبعد فوزه في هذه الانتخابات. ومع ذلك، تنبأت له على الفور بالفشل الذريع والسقوط السريع، وذلك في مقالاتٍ نشر بعضها حتى قبل أن يضع ترامب قدميه في البيت الأبيض.
ففي مقال بعنوان “نظام عالمي جديد يقوده متعصب أميركي”، نشر في صحيفة الحياة اللندنية: 3/11/2016 كتبت: “يعتقد كثيرون، وأنا واحد منهم، أن انتخاب ترامب رئيساً لأقوى دولة عرفها التاريخ يمثل انتكاسة خطيرة لقيم إنسانية نبيلة ناضلت البشرية في سبيلها، ومن ثم يتعين مواجهته والعمل على إفشال مشروعه.. وربما يكون من مصلحة العالم أن يتعامل مع رئيس أكثر شفافية ولديه الجرأة للبوح بحقيقة ما يبطن، حتى لو كان فجاً، بدلاً من رئيس يرتدي قناعاً ويجيد المناورة والتخفي وراء شعارات براقة، شريطة أن يرتفع الآخرون إلى مستوى التحدّي”. وفي مقال لاحق نشر في الصحيفة نفسها، تحت عنوان “ترامب سيسقط حتماً” (1/2/2017)، كتبت: “يؤكد سلوك ترامب، منذ اللحظة الأولى لتوليه السلطة، أنه رجل مندفع ومغرور، ويشكل خطورة على النظام العالمي، فهو يعتقد أن بمقدوره استعادة قوة الولايات المتحدة عن طريق العمل على إضعاف أعدائها، أي بالضغط على الصين من خلال التقرّب من تايوان، وبالضغط على إيران من خلال دعم إسرائيل وباستئصال الإرهاب الإسلامي من خلال التقارب والتنسيق مع روسيا.. إلخ، لكنه لن ينجح، لأنه ببساطة يسير في اتجاه معاكس للتاريخ، ولأنه لم يدرك بعد أن معالجة عورات العولمة تتطلب تقوية المؤسسات الدولية، وليس إضعافها، كما تتطلب المزيد من الشراكة مع العالم، وليس الانعزال عنه برفع شعار أميركاً أولا، والعمل على إيجاد شبكة أمان للدول والشعوب المستضعفة، وليس سحق هذه الدول والشعوب، أو التعالي على ثقافاتها وحضارتها. ترامب حصان خاسر وسيسقط حتماً عاجلاً أم آجلاً. الله وحده يعلم حجم الثمن الذي يتعين على العالم أن يدفعه، قبل أن يذهب هذا الرئيس إلى مزبلة التاريخ”.
وقتها تصوّر بعضهم أنني تعجلت في إصدار حكم قاسٍ على رجلٍ لم يُختبر بعد، ورأى أن الحكمة تقتضي التريث والانتظار، لأن التصريحات والمواقف الانتخابية لا تكفي وحدها معياراً للحكم النهائي عليه، غير أن السنوات الأربع التي قضاها ترامب فعلاً في البيت الأبيض أظهرت أنه أسوأ بكثير مما كنت أعتقد، وأن الضيق بسياساته، حتى في الداخل الأميركي، وصل إلى حد الإقدام فعلاً على محاولةٍ لإسقاطه وتنحيته رسمياً، قبل أن يكمل فترة ولايته الأولى. صحيحٌ أن هذه المحاولة فشلت، لأسباب لا مجال للخوض فيها حالياً، غير أن سلوك ترامب وتصرفاته، قبل هذه المحاولة وبعدها، يؤكّدان أنه يشكل خطورة كبيرة، ليس فقط على النظام العالمي، ولكن على الولايات المتحدة نفسها.
كانت السنوات الأربع التي قضاها ترامب في البيت الأبيض، خلال فترة ولايته الأولى، والتي آمل أن تكون الأخيرة، كافية لتدبيج عشرات الكتب والدراسات والمقالات التي حاولت سبر أغوار هذه الشخصية الفريدة والمستفزّة. بعض هذه الكتب ألفها صحافيون استقصائيون كبار، بوب وودوارد مثلاً، أو محامون تعاملوا مع ملفات ترامب الخاصة عن قرب، كمحاميه الخاص مايكل كوهن، أو ساسة كبار شغلوا مناصب حساسة في إدارته، مثل جون بولتون الذي كان مستشاره للأمن القومي. وكثيرون غيرهم. غير أن مايكل وولف، والذي صدر له كتابان عن ترامب، “النار والغضب”، وصدر في يناير/ كانون الثاني 2018، و”الحصار: ترامب تحت القصف”، وصدر في يونيو/ حزيران 2019، هو أكثر من اقترب من تركيبة ترامب النفسية لشخصية. لذا ربما يكون من المفيد هنا إعادة تذكير القارئ بأبعاد هذه الشخصية المركبة والمعقدة، كما تتجلى من ثنايا “النار والغضب” تحديداً.
يظهر هذا الكتاب ترامب شخصية “سيكوباتية” شديدة النرجسية، لديها شعور مفرط بالقدرة على الإنجاز في كل شيء، محصنة ضد الانقياد أو التأثر بالآخرين، حتى ولو كانوا من أكثر الخبراء تخصصاً وإلماماً بالجوانب الفنية للقضايا المطروحة على بساط البحث. هذا الولع الجنوني بالذات يبدو غير مبرّر على الإطلاق، خصوصاً إذا ما قابلناه بالجانب الآخر من هذه الشخصية المركّبة، فترامب رجل ينفر، بطبيعته، من القراءة والاطلاع، ولا يهتم بالغوص في العمق أو بالبحث في التفاصيل، فضلاً عن أنه متقلب “المزاج”، ويصعب التنبؤ بردود أفعاله، وكثيراً ما يتخذ قراراته في ضوء آخر ما يسمعه من الأشخاص المقرّبين جداً منه، حتى ولو كانوا من غير أصحاب الخبرة، فإذا ما نحّينا جانباً هذا البعد، وحاولنا إلقاء الضوء على الجوانب المتعلقة بحياته الأسرية وبرؤيته للمرأة، سوف نكتشف أنها ربما تكون الأكثر إثارة ومدعاة للجدل، فزوجته الحالية، ميلانيا، هي الزوجة الثالثة في حياته، وربما لا تكون الأخيرة. ولديه ضعف شديد تجاه ابنته إيفانكا وزوجها اليهودي جاريد كوشنر بالذات. ويعتمد في تصريف العديد من أعماله المالية والإدارية على نجليه إريك ودونالد ترامب جونيور، اللذين تطلق عليهما أجهزة إعلامية، تندّراً، لقب قصي وعدي، إحالةً إلى ابني صدام حسين! ولأن ترامب لا يطيق قيود الحياة الأسرية، ولديه ضعف شديد تجاه المرأة والجمال، فقد أصبح دائم الترحال، ولم يتردد في اقتناص الجميلات، كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، بما في ذلك إبّان حملة الانتخابات الرئاسية. وربما كان أخطر ما كشف عنه وولف في كتابه ما تردّد عن ولع ترامب بالإيقاع بزوجات أصدقائه، فحين تروق له إحداهن، يدعو زوجها إلى مكتبه، ثم يستدرجه إلى حوار حميم حول علاقاته الغرامية خارج نطاق الزواج، بينما تقوم سكرتيرته بالاتصال بالزوجة المخدوعة لتستمع مباشرة إلى زوجها، وهو يحكي بنفسه لترامب عن تفاصيل نزواته الخاصة، ممهداً الطريق أمامه للوصول إلى أغراضه الخبيثة المبيتة!
كان من الطبيعي أن تنعكس تلك السمات الشخصية على طريقة ترامب في إدارة البيت الأبيض، بل والدولة الأميركية ككل. ويسرد مؤلف “النار والغضب” تفاصيل كثيرة تلقي الضوء ساطعاً على عديدٍ من تصرفات ترامب ومفارقات سلوكه، فالبيت الأبيض لم يكن بالنسبة لترامب “الملياردير” سوى سكن ومكتب شديدي التواضع، إذا ما قورنا بسكنه وبمكتبه في البرج الذي يحمل اسمه في أهم شوارع حي مانهاتن في نيويورك. ومن ثم، راح يدير المقر الرسمي للحكم في الولايات المتحدة باستهانة واستخفاف، وكأنه أحد مشروعاته التجارية الخاصة. ولذا سرعان ما عمّت الفوضى في جنبات البيت الأبيض، فلم يشهد في تاريخه ارتباكاً في تعيينات كبار الموظفين مماثلاً للذي شهده العام الأول من إدارة ترامب. وعلى الرغم من نصائح عديدة قدمت له للتراجع عما أبداه من رغبةٍ في الاستعانة بأبنائه في تصريف شؤون الدولة، إلا أنه خالف هذه النصائح، وأصر على الاستعانة بابنته إيفانكا وزوجها كوشنر وأسند إليهما ملفاتٍ عديدة مهمة. صحيح أنه أحجم، في اللحظة الأخيرة، عن تعيين كوشنر كبيراً لموظفي البيت الأبيض، كما كان ينتوي من قبل، لكنه لم يتردّد في تعيينه كبيراً لمستشاريه، وأسند إليه ملف الشرق الأوسط بكل تفاصيله المعقدة، بما ذلك ملف الصراع العربي الإسرائيلي، وراح يخلع عليه لقب “كيسنجر الصغير”. ومعروفٌ أن كوشنر هو الذي أقنع ترامب بضرورة الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، في إطار خطة تستهدف وضع الفلسطينين أمام أمر واقع جديد، تمهيداً لحملهم على قبول “صفقة القرن”. إلى هذا الحد، دبّت الفوضى بعملية صنع القرار الأميركي في عهد ترامب، حيث بدت دولة المؤسسات الأميركية وكأنها قد أسلمت ذقنها لعبث العائلة الترامبية، فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن كتاب وودورد الذي نشر أخيراً “الغضب” يظهر ترامب، حتى بالنسبة لعديدين من أقرب مساعديه، غير مؤهل لقيادة الولايات المتحدة، ويشكل خطراً عليها وعلى العالم، لأصبح من حقنا أن نتساءل عمّا إذا كان في وسع العالم أن يحتمل ترامب أربع سنوات أخرى.
أتوقع أن يلقى ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة هزيمة كاسحة، تضعه في موقف يستحيل معه التشكيك في نتائج هذه الانتخابات أو نزاهتها، غير أن المفاجآت يمكن أن تقع في اللحظات الأخيرة لأي انتخابات، خصوصاً الأميركية. لذا سيظل القلق سيد الموقف، إلى أن تعلن نتائج الانتخابات التي نأمل أن تزف لنا أن كابوس ترامب قد انزاح، وأن سيد البيت الأبيض الجديد لن يكون على شاكلته مرة أخرى.