يقف أمن الخليج اليوم أمام مرحلة رابعة هي الإعلان الرسمي عن مشروع الأسرلة، والحماس الخليجيّ المعلن للتنسيق العسكري الشامل مع “إسرائيل”، فهل يبقى لغير الصراع المستمر مكان؟
منذ نهاية الحرب العراقية الإيرانية، يمكن القول إنَّ أمن الخليج مرَّ بثلاث مراحل حاسمة: حرب الخليج الثانية، واحتلال العراق في العام 2003، والحرب على الإرهاب بعد العام 2011.
عبّرت كل مرحلة عن ظروف ومعطيات جديدة، ولكن لو دقَّقنا النظر، فربما تقودنا المعطيات إلى أنَّ جوهر الموقف الخليجيّ لم يتغيّر، ومن الطبيعي أن يقود إلى مسار الأسرلة المكشوف، والمعطيات نفسها تقودنا إلى جوهر الموقف الإيراني في ما يتعلق بأمن الخليج، والَّذي كثّف تماماً في مبادرة هرمز لأمن الخليج والسلام.
على رماد المراحل الثلاث السابقة، وانتهاء صلاحية المبادرات الناعمة، والنداءات الإيرانية المتكرّرة، يقف أمن الخليج اليوم أمام مرحلة رابعة هي الإعلان الرسمي عن مشروع الأسرلة، والحماس الخليجيّ المعلن للتنسيق العسكري الشامل مع “إسرائيل”، فهل يبقى لغير الصراع المستمر مكان؟
مرحلة أولى
في العام 1997، قدّم خالد بن سلطان – الحاضر في مسرح عمليات حرب الخليج الثانية – تصوراً في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ليوضح المخاطر المحدقة بأمن الخليج وآليات التعامل معها، ويضع إيران والعراق، الخارجين من حرب استنزاف طويلة، والمعرضين للحصار، على رأس قائمة التهديدات لأمن الخليج، ويجمع بين البلدين في مقاربة “تصدير الثورة”، باعتبار أن إيران تحاول تصدير فكر الثورة الإسلامية، والعراق يحاول تصدير “الإيديولوجيا البعثية العلمانية”، وهي، في نهاية الأمر، المقاربة نفسها التي تم الاتكاء عليها خلال الحرب العراقية الإيرانية، باعتبار أن العراق يخوض “حرباً قومية” ضد مشروع “توسع فارسي”، والجامع بين المقاربتين هو المصلحة الأميركية الإسرائيلية في المنطقة التي كانت معنيّة بحرب طويلة بين العراق وإيران في الثمانينيات، ومعنيّة بحصارهما بعد نهاية الحرب في التسعينيات.
إنَّ ما ذكر عن الولايات المتحدة و”إسرائيل” في التصريحات الرسمية السعودية خلال التسعينيات، وكذلك في خطاب خالد بن سلطان في مركز البحوث، لم يكن إلا تكيّفاً إلزامياً مع المزاج العربي العام المصدوم بالتدخل الأميركي العميق ضد العراق في العام 1991.
أسّس هذا المسار لموطئ قدم أعمق للأسطول الأميركي الخامس، ليراقب عن قرب إمدادات النفط، ويراقب كذلك إيران والعراق. غادرت الولايات المتحدة مع حرب الخليج الثانية النظرية البريطانية التقليدية القائمة على الحفاظ على المصالح عبر قوات بتكلفة معقولة، والاعتماد على البحرية كسلاح رئيسي فقط، وانتقلت إلى النظرية الأميركية الخاصَّة، وهي تكثيف الوجود العسكري، وتغطية نفقاته الكبيرة عبر دول الخليج نفسها، وإدخالها في منافسات في ما بينها لتأسيس القواعد الأضخم واحتضان أكبر عدد ممكن من الجنود الأميركيين، وتدعيم كل ذلك بخيار مستقبلي ممكن، وهو تحضير “إسرائيل” لمهمّات مستقبليّة محتملة.
مرحلة ثانية
بعد احتلال العراق في العام 2003، صدرت ورقة بحثيّة عن مؤسّسة الأبحاث والتطوير (RAND)، تتناول مستقبل أمن الخليج بعد انهيار نظام صدام حسين (النظام الأمني الجديد في الخليج – آندرو راثميل، ثيودور كراسيك، وديفيد كومبيرت)، وكانت الورقة تقدم ملاحظات تدور حول سؤال مركزي: كيف يمكن تصميم نظام أمني للخليج يخدم المصالح الأميركية وبأقل التكاليف؟ وقد تركَّزت الأفكار في الأبعاد التالية:
أولاً: العمل على خلق نظام أمني قائم – في الإطار العام – على توازن القوى وما تسمّيه مؤسّسة “راند” “الإصلاحات”. اعتبرت الورقة البحثية أن مهمة الولايات المتحدة في تشكيل نظام جديد في الخليج إبان انهيار نظام صدام حسين أصعب منها في شرق أوروبا إبان انهيار الاتحاد السوفياتي.
ثانياً: ولادة توازن القوى تتطلَّب إضعاف إيران، وحصارها 360 درجة، ومنع وصول تكنولوجيا السلاح إليها. الوصول إلى توازن القوى أمر غير ممكن عبر تقوية الجيوش الخليجية التي لا تجيد استخدام السلاح الذي تشتريه. ولذلك، إن المسار الوحيد الممكن هو إضعاف إيران. وجود إيران كقوة كفوءة في الخليج قد يسبّب إشكاليات مشابهة لما سبّبها المشروع القومي العربي سابقاً في إنهاء الوجود البريطاني على خطوط إمداد النفط في العام 1971.
ثالثاً: العمل على موجتي تغيير في الخليج؛ الأولى تضمن عدم وصول تيارات متشددة إلى سدة الحكم في الخليج (ينسجم هذا مع مشروع محمد بن سلمان في السنوات الأخيرة)، والأخرى هي محاولة تغيير نظام الحكم الراديكالي في إيران، وذلك عبر تصنيع الأزمات ودعم أيّ شكل من أشكال التحرك الداخلي.
رابعاً: “دمقرطة” العراق وإعادة هيكلته لا تكفي في إنتاج نظام أمنيّ في الخليج ضمن المواصفات المذكورة: ضمان كامل لإمدادات النفط وبأقلّ التكاليف. من جهة أخرى، إنَّ إعادة هيكلة الجيش العراقي يجب ألا تصل إلى حدود القدرات الهجومية، الأمر الذي سينتج مشكلة إضافية إلى جانب إيران (تنسجم هذه التوجّهات تماماً مع الغيظ الأميركيّ من تحقيق إنجازات للجيش العراقي والحشد الشعبي في الميدان في مرحلة الحرب على الإرهاب بعد العام 2011).
مرحلة ثالثة: ما بعد الأسرلة
مع مرحلة الحرب على الإرهاب، اكتشفت الولايات المتحدة أكثر أن جميع الشروط التي خطّطت لها لم تنجح ولم تولد. ولذلك، إن خطوات إدارة أوباما في التخفيف من الحضور العسكري كانت عبارة عن قفزات في الهواء خاضعة في الدرجة الأولى لعبء التوسّع الذي تعاني منه الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
لم تتمكَّن الولايات المتحدة من تشكيل عراق على مزاجها، وهي تعاني سياسياً فيه، وتتفاجأ بقوى سياسية جديدة لم تكن في وارد خرائطها الذهنية، كما أنَّها لم تتمكَّن من تحقيق هدف “توازن القوى” عبر إضعاف إيران التي احتجزت ناقلة النفط البريطانية كرد على احتجاز ناقلتها، كما أنَّها أيقنت أكثر وأكثر أنَّ تقوية جيوش الخليج هي خطة غير قابلة للتحقق.
من جهة أخرى، تشعر الولايات المتحدة بالاطمئنان، لضعف احتمالية نشوء تغييرات جذرية قريبة في أنظمة الخليج، حتى في ظلّ احتجاجات شعبية شرسة، كتلك التي تجري في البحرين، ولكن مقابل هذه الطمأنينة، يتعاظم قلقها من ضعف إمكانية حصول تغيير في جوهر النظام الإيراني لصالحها.
وفي ظلِّ الفشل المتراكم في تحقيق الهدف الأميركي (أمن خليجي مكيّف على مزاجها بأقل التكاليف)، فإنها تدفع بخطوة الأسرلة الخليجية التي ربما تسعفها في زجّ “إسرائيل” كوكيل أكثر اعتماداً من ناحية الأنظمة التقنية والعسكرية.
ومع حماس الخليج لخيار الأسرلة، فلسان حال الولايات المتحدة يخاطب إيران: “جميع المبادرات، من زيارة رفسنجاني، إلى مبادرة خاتمي، إلى مبادرة هرمز لروحاني، وراء ظهرنا الآن، وليس أمامكم سوى القتال”. لقد ردَّ الإيراني على الوجود الأميركي نفسه في الخليج سابقاً، عندما صرَّح خامنئي: “لقد كنتم بعيدين منا، والآن أصبحتم تحت أيدينا”، وقد حدث هذا حقاً عندما ضربت قاعدة عين الأسد في العراق، فهل يقدّر الإسرائيلي والخليجي ثمن الاقتراب؟