لكل تطبيع عربي مع الكيان الصهيوني حكاية. يُحكى مثلاً أن الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، اتخذ قرار التطبيع مع إسرائيل بشكل مفاجئ أربك حسابات، لا وزرائه ومستشاريه فقط، الذين استقال بعضهم احتجاجاً على زيارته إسرائيل في نوفمبر/ تشرين الثاني 1977، وأبرزهم وزير خارجية السادات نفسه، الراحل إسماعيل فهمي، ولكن أيضاً أربك حسابات خصومه وحلفائه. يحكي وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، إبّان السبعينيات، وثعلب الدبلوماسية الأميركية والابن المخلص لإسرائيل، أن ما أربكهم ليس قرار السادات المفاجئ بزيارة إسرائيل والتمهيد للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولكن المفاجئ أنه لم يطلب شيئاً في مقابل ذلك!
أما حكاية التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، فلم تبدأ في 13 من أغسطس/ آب الماضي، حين أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، التوصل إلى اتفاق سلام بين الإمارات وإسرائيل وتطبيع علاقاتهما بشكل كامل، ولا يوم 15 من سبتمبر/ أيلول الجاري، حين وُقِّع اتفاق التطبيع بينهما في واشنطن، ولكن قبل ذلك بأكثر من ربع قرن، وتحديداً في عام 1994. يخبرنا بذلك السفير الإسرائيلي في ألمانيا، جيرمي إيسخاروف، الذي كان أول دبلوماسي إسرائيلي يلتقي مسؤولاً إماراتياً، وهو جمال السويدي الذي كان يعمل مستشاراً سياسياً لولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، وقد أنشأ وقتها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الذي كان يُستخدم (وربما حتى وقت الإعلان الرسمي عن التطبيع!) قناة خلفية للتطبيع بين الإمارات وإسرائيل، ولعقد لقاءات بين مسؤولي البلدين، وذلك حسب إيسخاروف الذي كان آنذاك الرجل الثالث في السفارة الإسرائيلية في واشنطن، وقد تواصل معه أحد المستشارين الأميركيين نيابة عن أبوظبي من أجل معرفة موقف إسرائيل من سعي أبوظبي إلى شراء طائرات إف 16 من الولايات المتحدة، ورغبة أبوظبي في أن تتفادى أي معوقاتٍ قد تحدث في الكونغرس بهذا الشأن. التقى إيسخاروف بالسويدي، وتحدثا ليس فقط في ما يخص صفقة الطائرات مع واشنطن، بل في أمور أخرى كثيرة، منها كيفية تطوير العلاقات بين إسرائيل والإمارات في مجالات أخرى.
هكذا يتحدّث إيسخاروف، بكل فخر، عن الرؤى والمصالح المشتركة التي تجمع تل أبيب وأبوظبي، ومهدت لمزيد من اللقاءات والاجتماعات بين مسؤولين إسرائيليين وإماراتيين على مدار ربع القرن الماضي. يذكر، مثلاً، أنه جرت مناقشة موضوعات عديدة، مثل إيران، خصوصاً نشاطها النووي، والصواريخ التي تهدّد المنطقة، أو الوضع في سورية، أو مصر أو الأردن. كان هذا يحدث بينما تسجّل الإمارات ظاهرياً، سواء في القمم العربية أو لقاءات جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، التزامها “دعم الشعب الفلسطيني في بناء دولته على حدود 1967… والتزام المبادرة العربية للسلام”… إلخ، في وقتٍ كانت تطعن فيه الفلسطينيين من الخلف عبر لقاءات وصفقات وتحالفات مع الكيان الصهيوني.
عرفنا أيضاً حكاية التطبيع الإماراتي من الصحف الإسرائيلية التي تكشف كل يوم خبايا هذه العلاقة المتينة والاستراتيجية بين أبوظبي وإسرائيل وأسرارها، فالزيارات بين مسؤولي البلدين لم تنقطع على مدار السنوات الماضية، وعلى أعلى المستويات. يقول إيسخاروف، في حديثه لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، إنه على تواصل دائم مع السفير الإماراتي في واشنطن وعرّاب العلاقة الحميمية بين أبوظبي وتل أبيب، يوسف العتيبة، على مدار السنوات الماضية. وكشفت الصحافة الإسرائيلية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد زار أبوظبي على الأقل مرتين خلال العامين الأخيرين. وهناك من يتحدّث عن أن وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، قد زار تل أبيب بشكل منتظم يكاد يكون شهرياً (وأحياناً أسبوعياً) على مدار السنوات الماضية. ورقد لا يمرّ وقت طويل، حتى نتعرّف إلى قائمة المسؤولين العرب الذين زاروا تل أبيب سرّاً خلال السنوات الماضية، وذلك حين يحين موعد الإعلان الرسمي لهذه العلاقة الآثمة في ما يسمّى التطبيع.
لم يجرؤ الإماراتيون، ولن يجرؤوا، على كشف أبعاد علاقتهم الممتدة بإسرائيل وخباياها منذ التسعينيات، وذلك مثلما يفعل المسؤولون الإسرائيليون حالياً، الذين لا يدّخرون جهداً في الحديث، بفخر، عن كيفية اختراقهم الدوائر الرسمية العربية خلال العقود الأخيرة. لذا، ليس غريباً أن يتحدّث نتنياهو بكل ثقة عن أن دولاً عربية أخرى (حدّدها بخمس دول) ستلحق بقطار التطبيع قريباً. وليس هناك أدنى شك أيضاً في أن هذه البلدان قد بدأت بالفعل تطبيعها مع الكيان الصهيوني على مستويات مختلفة اقتصادية وسياسية واستراتيجية وتكنولوجية. وقريباً جداً سينكشف الغطاء عن سوءات هؤلاء، وخيانتهم القضية الفلسطينية سرّاً خلال العقود الماضية، بينما كانوا يوقعون على دعمها ظاهريا.
كل يوم تنكشف خبايا المؤامرة العربية على فلسطين وقضيتها وشعبها. وبتنا الآن نعرف أكثر عن خيوط هذه المؤامرة التي بدأت قبل عقود من التطبيع والتحالف السرّي مع الكيان الصهيوني، ولن نُفاجأ مطلقاً بأن نرى مسؤولين عرباً آخرين يتبادلون العبارات الحارّة، ويلتقطون الصور مع نظرائهم الإسرائيليين، ما يكشف حميمة علاقتهم الآثمة.