كنا طلبة في السنة الأولى في كلية الآداب بالجامعة الأردنية، عندما أطلّ علينا أستاذنا الدكتور خالد الكركي ليهتف بنا بصوته المليء بالسحر والدهشة: «لا تكونوا ظلالاً للآخرين».
كان المساق متصلاً بتذوق النصّ الأدبي، وكان الزمن منتصف ثمانينيات القرن المنصرم.
منذ ذلك الحين حتى اليوم، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وعصفت الانزياحات والانهيارات بالمباني والمعاني. لكنّ الصرخة التي أطلقها ذلك الرجل القادم من قرية العدنانية في الكرك جنوب الأردن، ما زالت تتردد في أروقة هذا الفتى الذي أضحى على مشارف الكهولة، وها هو يخط عبارات هاهنا عن زمن متفلّت يحاول أن يقبض منه ولو على حفنة من عنفوان.
وما إن يتوغل المرء في الفلسفة وعلم النفس والفكر التربوي حتى تداهمه الكثير من النظريات والأفكار التي تؤكد أهمية الاختلاف، والتغريد خارج السرب، والخروج من الصندوق.
بل إنّ فيلسوفاً بوزن نيتشه دعا إلى «قتل الأب» بالمعنى الرمزي للعبارة التي تستبطن التخطي والتجاوز، لهذا وجدنا نيتشه الذي يلقب بـ«فيلسوف المطرقة» يقتل أسلافه من سقراط وأفلاطون، إلى سبينوزا وكانط، وفاغنر وشوبنهاور، وما هو أبعد من ذلك، في مغامرة معرفية شاقة قائمة على الشك والمساءلة والتهديم وإعادة البناء، بقصد الاختلاف والمغايرة.
ومثلما قتل أسلافه، فإنّ تلاميذ نيتشه قد حاولوا قتله أيضاً باعتباره أباً سيطر على المشهد الفلسفي في عصره. وكان فرويد من بين الذين خشوا الاقتراب من نيتشه كيلا يتأثر به، لإدراكه أنّ نيتشه آسر ومسيطر، ولعل تطوير فرويد لنظرية «قتل الأب»، اعتماداً على «عقدة أوديب» في الأسطورة الملحمية، وتطبيقها على أعمال دستويفسكي، قد نقل الفكرة إلى رحاب علم النفس وتحليل الدوافع الغريزية المقموعة، ولا أدري إن كان في تجنّب فرويد لنيتشه إضمار للرغبة في قتله وتجاوزه، فهذا أمر يحتاج إلى بحث مستقل.
ورغم ما يجلبه التفكير خارج الصندوق من متاعب وحصارات وملاحقات قد تهدد الوجود الفردي برمته، وقد تودي بصاحبها إلى التهلكة، إلا أنها تجربة تستحق أن تخاض، إذ بدونها لا تتحقق الاستقلالية، أو لا تكون الاستقلالية مكتملة. ولهذا السبب وضع الكاتب البريطاني بول آردن هذه العبارة في مقدمة كتابه «كيفما فكرت.. فكر العكس»:
«هذا الكتاب يشرح فوائد القرارات الخاطئة، يبيّن كيف أنّ المجازفة هي أمانك في الحياة، ولماذا اللاعقلانية أفضل من العقلانية، فالسر في امتلاك الثقة لرمي النرد».
الفكرة الأهم في هذا الكتاب، وفيه الكثير من الأفكار المهمة والمثيرة بلا ريب، هي حكاية لاعب أولمبي يوردها الكاتب على النحو التالي: قبل الألعاب الأولمبية التي نظمت في المكسيك، اعتاد أبطال القفز العالي الطيران فوق العارضة، جاعلين أجسادهم موازية لها. وسميت هذه التقنية «الدحرجة الغربية». لكنّ ذلك كان على وشك أن يتغيّر.
قارب رياضي غير معروف العارضة المنصوبة على ارتفاع قياسي، هو متران وأربعة وعشرون سنتمتراً، بطريقة مغايرة تماماً. انطلق وبدل أن ينحني بصدره في اتجاه العارضة، أولاها ظهره. رفع ساقيه وانقلب فوق العارضة التي وضعها خلفه.
كان اسمه ديك فوسبيري، وعُرف أسلوبه بالقفز بـ«قَلبة فوسبيري» التي ما زالت تستخدم حتى اليوم. قفز أعلى من أي رجل قبله، لأنه فكر بعكس كل من سبقوه.
السر، كما يقول آردن، يكمن في المغامرة وليس الجهل. الحياة الحقيقية سلسلة من الوثبات والسقطات. وحتماً سيزداد الطلب عليك، إذا كنت لا تسير مع القطيع.
كتاب بحجم الكف، لكنّه محفّز. وقد حقق صاحبه شهرة واسعة؛ لأنه هدّم النسق والعادة والمألوف، وفكّر خارج الصندوق، وغرّد خارج السرب، ولم يكن ظلاً إلا لصوت أناه الذي أطلق له العنان، فانفجرت قدراته الإبداعية، وفي ذلك يكمن التجلي الأكبر لقتل الآباء والأوثان والتصورات الجاهزة عن الأنا والكينونة والوجود.
لا بد من قفزة بعكس المألوف حتى نكون مختلفين، وحتى نحلق أعلى، ولا نكرر ما فعله الآخرون الذين علينا أن ننشقّ عنهم، ونبتكر صوتنا الخاص وإرادتنا المستقلة. لهذا أجاب المخرج العبقري وودي ألن، حينما سئل عن سر النجاح: أظهر نفسَك. وسيكون ما قاله ألن أشد عمقاً إذا عطفناه على ما قاله أسطورة كرة القدم بيليه: هكذا سجلت هدفاً على تشيكوسلوفاكيا.. قذفت الكرة بقوة نحو الهدف، دون تفكير، ولكن بوعي تام.